رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرسول في مصر «13»

محمد الباز يكتب: عبدالرحمن الشرقاوى.. كيف أنصف اليسارى الأعظم النبى محمد؟

محمد الباز
محمد الباز

كانت المرة الأولى التى أطالع فيها «محمد رسول الحرية» أحد أهم الكتب التى تسجل حياة النبى، صلى الله عليه وسلم، وأحد أهم كتب مؤلفه أيضًا الروائى والشاعر الكبير عبدالرحمن الشرقاوى، تركت نفسى تمامًا لما يقوله، فالكاتب الذى قرأت له قبلها «أئمة الفقه التسعة، وعلى إمام المتقين، والحسين ثائرًا وشهيدًا»، يغزل حياة النبى بمزاج رائق، لا يتقيد فيه كثيرًا بمرويات الأقدمين، ولا يُلزم نفسه بتفسيراتهم التى قد لا تتناسب مع قرّاء العصر الحديث، سواء من آمنوا بمحمد، صلى الله عليه وسلم، أو هؤلاء الذين اعتادوا على أن ينتقصوا من قدره.

بين سطور الكتاب وجدت هذه القصة فى سطور قليلة، جذبتنى إليها لغرابتها وربما جدتها بالنسبة لى.
الكاتب يتحدث عن امرأة تدعى ضباعة بنت عامر، يقول نصًا إن النبى، صلى الله عليه وسلم، رأى فى الكعبة امرأة شابة جميلة تطوف، كان اسمها ضباعة بنت عامر، فخطبها لنفسه، وشغفت المرأة به حبًا، ولمّا علم الرسول أنها حين كانت تطوف بثوبها ألقت شعرًا فاحشًا متغزلة فى فتوته، ثم ذُكر له عنها ما جعله يتركها ففسخ الخطبة.
نسجت من هذه السطور القليلة تقريرًا صحفيًا، ونشرته فى جريدة «صوت الأمة» واخترت له عنوانا هو «مفاجأة.. السيدة خديجة لم تكن المرأة الأولى فى حياة الرسول».
تعاملت مع ما أورده عبدالرحمن الشرقاوى على أنه خبر من بين أخبار النبى، صلى الله عليه وسلم، استخلصه من بين كتب التراث، ولأن ضباعة لا تهمنى هنا من قريب أو بعيد، فقد رأيت أن الأهمية تأتى من أن السيدة خديجة التى نعرف جميعًا أنها المرأة الأولى فى حياة النبى ليست كذلك.
لم يمر التقرير مرورًا عابرًا، أثار استياء كثيرين، وعبر رسائل القراء وجدت حالة من الغضب، توقفت أمام جملة حملتها رسالة قارئ: «عندما قرأت العنوان على الصفحة الأولى شعرت بأن قلبى يسقط فى قدمى، فما الذى تتقولونه على النبى وزوجته السيدة خديجة؟».
لم يكن فيما قلته تقولًا من أى جانب، كنت فقط أشير إلى ما جاء فى كتاب عبدالرحمن الشرقاوى، صحيح أنه لم يكن دقيقًا بما يكفى، لكنه يظل فى النهاية مسئولًا عنه وحده.
وعندما تسألنى لماذا أقول إنه ليس دقيقًا الآن؟
سأقول لك إن هذه القصة شغلتنى من اللحظة الأولى التى طالعتها فيها، فسرتها فى البداية على أنها قد تكون من بين خيال الكاتب، فعلى كثرة الذين كتبوا فى السيرة النبوية، فإن أحدًا لم يقترب من حياة النبى الخاصة قبل السيدة خديجة، لم يحدثنا أحد عما جرى فيها، رغم أنه لم يبدأ حياته الزوجية إلا وهو فى الخامسة والعشرين من عمره، فهل يعقل أن يكون شاب نشأ فى بيئة صحراوية ولا تكون له تجربة خاصة؟
حتى بنت الشاطئ الدكتورة عائشة عبدالرحمن فى كتابها الرائع «نساء النبى» والذى تعاملت فيه مع النبى على أنه «الرجل الزوج» وليس النبى المرسل، لم تقترب من هذه المساحة، فمن أين جاء الشرقاوى بقصة ضباعة؟
لم أشك فى أمانة عبدالرحمن الشرقاوى لحظة واحدة، لكن ظل السؤال معلقًا فى رأسه ومعقودًا بلسانى: من أين جاءته هذه القصة؟
بعد سنوات وجدت المكان الذى آوى إليه ليستخرج قصة ضباعة بنت عامر، وكانت فى انتظارى مفاجأة أخرى.
فى كتابه «الإصابة فى تمييز الصحابة» روى ابن حجر العسقلانى أن ضباعة كانت متزوجة من عبدالله بن جدعان، ورغب فيها هشام بن المغيرة، وكان من رجال قريش، فقال لـ«ضباعة»: أرضيت لجمالك وهيئتك بهذا الشيخ اللئيم؟.. سليه الطلاق حتى أتزوجك.
سألت ضباعة ابن جدعان الطلاق، فقال لها: بلغنى أن هشاما قد رغب فيك، ولست مطلقك حتى تحلفى لى أنك إن تزوجت أن تنحرى مائة ناقة سود الحدق بين إساف ونائلة، وأن تغزلى خيطًا يمد بين أخشبى مكة، وأن تطوفى بالبيت عريانة.
أخبرت ضباعة هشام بن المغيرة، فقال لها: أما نحر مائة ناقة فهو أهون على من ناقة أنحرها عنك، وأما الغزل فأنا آمر نساء بنى المغيرة يغزلن لك، وأما طوافك بالبيت عريانة فأنا أسأل قريشا أن يخلوا لك البيت ساعة، فسليه الطلاق، فسألته فطلقها وحلفت له.
لا وجود للنبى محمد، صلى الله عليه وسلم، فى هذه الرواية، فما الذى جعل عبدالرحمن الشرقاوى يربط بينهما، ويضعهما فى جملة مفيدة، هل قاده شيطانه لأن يختلق قصة وهمية يزيد الإثارة فى السيرة التى كتبها؟
لا يتأخر ابن حجر العسقلانى فى الإجابة علينا.
فصاحب «الإصابة فى تمييز الصحابة» يروى ما نقله ابن عباس، يقول: أخبرنى المطلب بن أبى وداعة السهمى، وكان لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، رفيق صبا: لما أخلت قريش لضباعة البيت خرجت أنا ومحمد ونحن غلامان، فاستصغرونا فلم نمنع، فنظرنا إليها لما جاءت، فجعلت تخلع ثوبا ثوبا، وهى تقول: اليوم يبدو بعضه أو كله، فما بدا منه فلا أحله، حتى نزعت ثيابها، ثم نشرت شعرها فغطى بطنها وظهرها حتى صار فى خلخالها، فما استبان من جسدها شىء، وأقبلت تطوف وهى تقول هذا الشعر.
يمكننا الآن أن نترك ابن حجر العسقلانى ونمضى إلى محمد بن جرير الطبرى صاحب الكتاب الشهير «تاريخ الرسل والملوك».
يسجل الطبرى فى تاريخه أن النبى، صلى الله عليه وسلم، بعد الهجرة خطب ضباعة بنت عامر من ابنها سلمة بن هشام بن المغيرة، فطلب منه مهلة حتى يستأمرها، ولما ذهب سلمة إلى أمه قال لها: النبى خطبك، فقالت: ما قلت له؟ فرد عليها: قلت له حتى أستأمرها، فانتفضت قائلة: وهل فى النبى يستأمر.. ارجع فزوجه.
المفاجأة التى ينقلها الطبرى أن سلمة عندما عاد إلى النبى، صلى لله عليه وسلم، سكت عنه ولم يحدثه مرة أخرى فى أمر أمه، فقد أخبره أنها كبرت، وقيل له: إن ضباعة ليست كما عهدت، فقد كثرت غضون وجهها، وسقطت أسنانها من فمها.
القصة ملغزة ومريبة، وتحمل لا منطقية كبيرة يمكن أن تنسفها من أساسها، وهو ما جعلنى أتعجب كيف صاغها عبدالرحمن الشرقاوى بهذه الطريقة، وهل كان يخطط للإساءة للنبى، صلى الله عليه وسلم، فيضع فى طريقه امرأة لم يرتبط بها بأى علاقة حتى لو عابرة؟
حيرتى وصلت إلى المؤرخين الكبار الذين أخفوا هذه القصة، ربما خوفًا من أن يفسرها أحد على نحو يمكن أن يسىء إلى النبى، صلى الله عليه وسلم، لكن على أى حال يمكننا أن نستوعب الأمر ببساطة، فهناك كثير من حياة النبى أخفى، كما أن هناك الكثير الذى تم الترويج له دون أن يكون حدث فعلًا.
هذه الحيرة أو لنقل الغموض يمكن أن نفضه تمامًا إذا عدنا إلى التقديم الذى وضعه عبدالرحمن الشرقاوى قبل أن يبدأ كتابه «محمد رسول الحرية» والذى صدر للمرة الأولى فى العام ١٩٦٢.
لكن قبل أن ندخل إلى رحاب الشرقاوى فيما كتبه عن النبى، صلى الله عليه وسلم، لا بد أن نتوقف قليلًا عنده هو، فالشرقاوى الذى يتعامل معه البعض على أنه كاتب إسلامى، بسبب كتاباته العديدة فى هذا المجال ومنها «أئمة الفقه التسعة- ابن تيمية الفقيه المعذب- الصديق أول الخلفاء- على إمام المتقين- خامس الخلفاء عمر بن عبدالعزيز»، كان صحفيًا وأديبًا وشاعرًا وكاتبًا مسرحيًا وسياسيًا لعب أدوارًا عديدة فى الحياة العامة المصرية.
فى الصحافة لا نتعامل معه على أنه صحفى من أبناء المهنة الذين أضافوا لها فى مساحات الصناعة وفنون الكتابة، هو بالنسبة لنا كاتب صحفى مميز، صحيح أنه تولى عدة مناصب صحفية منها رئاسة مجلس إدارة مؤسسة روزاليوسف، إلا أن الكاتب الذى كان يسكنه غلب كل المناصب التى تولاها، ومقالاته التى خاض بها معارك حادة وحاسمة مع قيادات العمل الدينى فى مصر، لا تزال تمثل بالنسبة لنا جزءًا مهمًا من تراثنا الصحفى.
إسلاميات عبدالرحمن الشرقاوى جعلته هدفًا للهجوم، فنقده لرجال الدين والتصدى لأفكارهم، جعلهم ينظرون إليه على أنه عدو للإسلام، وإذا حاولت أن تلفت انتباههم إلى إسلامياته، ستجدهم ينظرون إلى هذه الإسلاميات على أنها محاولة لهدم الدين من أساسه، لأن مدخله للكتابة لم يكن إسلاميًا، بل كان اشتراكيًا، بل كان هناك من حاول حشد كل جهودة لإثبات أن الشرقاوى شيوعى ملحد، ليذهب بعد ذلك إلى أن ما يكتبه فى الإسلاميات ليس سوى مؤامرة على الإسلام ونبيه وكل من ينتمى إليه.
لم ينكر عبدالرحمن الشرقاوى يساريته، لكن فات على كثيرين أن يسارية عبدالرحمن الشرقاوى كانت من أجل الإنسان وليست من أجل شىء آخر.
بدأ عبدالرحمن الشرقاوى العمل على كتابه «محمد رسول الحرية» فى العام ١٩٥٣، ولم ينشره كاملًا إلا فى العام ١٩٦١، وكان النشر فى صورة حلقات مسلسلة عبر جريدة المساء، قبل أن يجمعها لينشرها فى كتاب فى العام التالى مباشرة، كانت مقدمته دالة جدًا على ما أراده، وعلى رد الفعل على ما نشره.
أهدى الشرقاوى كتابه إلى أبيه، ولم يكن الإهداء عاطفيًا بل كان موضوعيًا، يقف وراءه سبب أعتقد أنه مهم بالنسبة لنا هنا، كتب: «إلى ذكرى أبى الذى غرس فى قلبى منذ الطفولة حب محمد»، وكأنه يريد أن يقول للجميع: لا مجال للمزايدة على عاطفتى تجاه نبى الإسلام، فأنا لا أعرفه أكثر منكم فقط، ولكنى أحبه أكثر منكم أيضا.
يدخل الشرقاوى فى الموضوع مباشرة، فهو لا يقدم كتابًا جديدًا فى السيرة، فمكتبة السيرة غنية زاخرة بالمؤلفات القديمة والحديثة.
يقول: ما أحسب أن كتابًا جديدًا أكتبه يمكن أن يضيف حقيقة جديدة إلى ما كتب فى السيرة، ولكنى أردت أن أصور قصة إنسان اتسع قلبه لآلام البشر ومشكلاتهم وأحلامهم، وكوّنت تعاليمه حضارة زاهرة خصبة أغنت وجدان العالم كله لقرون طوال، ودفعت سلالات من الأحياء فى طريق التقدم، واكتشفت آفاقًا من طبيعة الحياة والناس.
جمع الشرقاوى حالة الغضب التى واجهت كتابه، وبدأ يتحدث مع من ينتظرونه.
بالنسبة له فالذين يبحثون فى كتابه عن قصة الإنسان صاحب التعاليم التى كونت الحضارة، يستطيعون أن يتجاوزوا سطور هذه المقدمة ليقرأوا الكتاب مباشرة، لأنه لم يكتب لهم هذه المقدمة، وهؤلاء السادة الذين يريدون أن يروا فى الكتاب صورة الرجل لا النبى، فليتفضلوا بقراءة الكتاب نفسه، عسى أن يجدوا فيه قصة إنسان رائع البطولة، ناضل على الرغم من كل الظروف ضد القوى الغاشمة المفترسة، ومن أجل الإخاء البشرى، ومن أجل العدالة والحرية وكبرياء القلب المعذب، ومن أجل الحب والرحمة، ومستقبل أفضل للناس جميعًا بلا استثناء: الذين يؤمنون بنبوته والذين لا يؤمنون بها على السواء.
هنا يمكننا أن نمسك بالفلسفة التى كتب بها عبدالرحمن الشرقاوى قصة النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، فهو يقدم محمد النبى لمن يؤمنون به، ويقدم محمد العظيم العبقرى لمن لا يؤمنون به، وأعتقد أن هذا ما أحدث اللبس، فقد ذهب ناقدوه إلى أنه يجرد النبى، صلى الله عليه وسلم، من نبوته، ولا يعترف له بالوحى، وهو كلام خرج من قلوب مريضة وعقول معتلة.
استمع إلى عبدالرحمن الشرقاوى وهو يواجه هؤلاء، عندما يقول: أنا لم أكتب هذه المقدمة للذين يتهمون الكتاب فى بعض الدوائر بأنه انحراف عن الدين، ولا للذين يتهمونه بأنه انحرف إلى التصوف والسلبية، ولا للذين يقلبون صفحات الكتاب بأصابع تشير فى اتهام: أين رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فى هذه الصفحات؟ أين النبى؟
يجيب الشرقاوى عن السؤال الذى توقعه، أو قد يكون سمعه بالفعل، يقول: لئن كان هؤلاء أشداء فى دينهم فأنا أكلهم إلى حسن إسلامهم، وأحيلهم إلى الحديث الشريف: أيما رجل اتهم أخاه بالكفر فقد باء بها أحدهما، ثم إنى لأذكرهم بالموقف فى صلح الحديبية لنتخذ منه الأسوة، عسى أن نعتبر جميعًا.
حدد الشرقاوى لمن يكتب لهم بوضوح، فهو يكتب مقدمته التوضيحية للذين استقبلوا الكتاب فى طيبة وواجهوه بالنقد الموضوعى عندما نشرت فصوله على صفحات جريدة المساء، ويكتب لمن لم يقرأوا فصوله ويتوقعون أن يضيف الكتاب شيئًا جديدًا إلى السيرة النبوية، فقد أراد أن يقول لهؤلاء إن السيرة ليست فى حاجة إلى كتاب جديد يتحدث عن عصر النبوة أو يدافع عن صدق الرسالة أو يؤكد معجزات النبى.
يصل بنا الشرقاوى إلى نقطة المواجهة الحاسمة والحادة والتى أعتقد أننا ما زلنا فى حاجة إليها حتى الآن، رغم مرور ما يقرب من ستين عامًا على ما قاله، ففى رأيه: لسنا فى حاجة إلى كتاب جديد عن الدين، يقرأه المسلمون وحدهم، ولكننا فى حاجة إلى مئات الكتب عن التطور الذى يمثله الإسلام، كتب يقرأها المسلمون وغير المسلمين، تصور العناصر الإيجابية فى تراثنا، وتصور ما هو إنسانى فى حياة صاحب الرسالة، إننا بحق فى حاجة إلى مئات من الكتب يقرأها الناس كافة، الذين يؤمنون بنبوة محمد والذين لا يؤمنون.
أما لماذا يريد الشرقاوى ذلك، فكما يقول: إننا دائمًا فى حاجة إلى إعادة تقييم تراثنا، أى إحياء ما هو إنسانى فيه ونشره على العالم، إلى تصوير القدر المشترك- المتفق عليه بين الجميع- من دور أصحاب الرسالات، أى إلى تصوير الجانب الدنيوى الذى أصبح ميراثًا مشتركًا لكل الناس مهما تختلف دياناتهم وفلسفاتهم وآراؤهم.
ذهب الشرقاوى إلى ذلك وهو يعرف أن هناك من الناس من يجحد دور الإسلام ومحمد، ومن يتهم الإسلام بأنه حركة رجعية، ومن يتهم محمدًا بأنه ارستقراطى من أشراف مكة، كان يطلب ملك الحجاز، وأنه جاء لينظم العبودية وليحتال على المجتمع ببعض إصلاحات تخفف الضغط عن الفقراء ليؤخر ثورتهم، وأنه جاء ليضطهد اليهود، ومثل هذه الآراء ينشرها كتاب كثيرون فى العالم بأكثر من لغة.
يحسم الشرقاوى ما لديه، يقول: على الرغم من أننا نملك آلاف الأدلة على فساد هذه الآراء، ونملك من حقائق التاريخ الثابتة ما يقطع بأن للإسلام دورًا تقدميًا وتحريريًا، لم يزل يؤثر فى تاريخ البشرية ومستقبلها، وأن محمدًا كان رسولًا يبشر بالحرية والإخاء الإنسانى، وأنه عامل اليهود بصبر ورحمة وحكمة لم يعرفها التاريخ من قبل ولا من بعد، على الرغم من كل هذا فقد عدل كثير من كتابنا عن مناقشة هذا كله، ودارت معظم الكتابات فى السيرة حول النبوة والمعجزة، حول الرسول لا الرجل، ولكن حين نناقش من لا يؤمن بالجانب الدينى، يتحتم علينا أن نناقشه بمنطقه، لا بمسلماتنا وعقائدنا، إنهم يناقشون الرجل والتعاليم فلا يجب إذًا أن نتحدث عن شىء آخر، لا يجب أن نواجههم بالنبى حين يتحدثون عن الرجل، فلنواجههم بالرجل، وإن فى حياته لثروة لا تنفد من الآباء والرحمة والحب والحكمة والبساطة والقدرة الخارقة على التنظيم والإبداع وكسب القلوب.
يصل بنا الشرقاوى إلى نقطة مواجهة ساخنة أخرى من خلال عدة أسئلة كاشفة.
أكنا نخاف من الحديث عن الرجل، لأن فى مجتمعاتنا كثيرًا من الذين لا تروق لهم الحياة إلا إذا نصبوا فيها الفخاخ؟
أكنا نتهيب الذين يؤذيهم أن يجتهد الناس ليعالجوا فتح أبواب جديدة إلى المعرفة؟
أكنا نخشى من الاتهام بالكفر والخروج على الدين وعدم الاعتراف بالنبوة؟
ومَن هو الذى يملك أن يفتش فى قلب إنسان ليناقش معتقداته وايمانه؟
أحرام علىّ أن أكتب لغير المسلمين عما فى حياة محمد النبى من روعة وبطولة وإنسانية وخطر؟
هذه إذن عقلية اليسارى الذى اتهموه بأنه شيوعى وملحد، وقالوا أنه أنكر نبوة النبى، صلى الله عليه وسلم، وهو يكتب عنه، رغم أننا إذا تأملنا قليلًا ما يقوله ويذهب إليه، فسنكتشف ببساطة أنه أنصف النبى، صلى الله عليه وسلم، عندما اقتحم من لا يؤمنون به بمنطقهم، وهو ما يجعلهم وجهًا لوجه أمامه لا يستطيعون أن يهربوا منه، ولا يتمكنون من التقول عليه بعد ذلك.
ما لا يعرفه كثيرون عن عبدالرحيم الشرقاوى أنه كان يعمل بفلسفة التقريب، كان طوال الوقت يقف بين المتناقضات يحاول أن يعقد معاهدة صلح بينها.
وحتى تتضح الصورة أكثر، فهذا هو ناقدنا الكبير رجاء النقاش يصف حال عبدالرحمن الشرقاوى بقوله: الشرقاوى كان صاحب فكر يسارى، يدعو إلى التغيير ويؤمن به، وكان فى الوقت نفسه من أصحاب الأسلوب الواقعى فى معالجة المشكلات الحقيقية، ولذلك قرر أن يخوض محاولة أو مغامرة كبرى للتوفيق بين الفكر اليسارى والسلطة، وكان من أعلام المدرسة الأولى فى تاريخنا الثقافى والفكرى، وهى المدرسة التى تعمل وتحرص على التفاهم مع السلطة وخلق الجذور معها، حتى لا يتعرض فكره للقمع المستمر الذى يؤدى به فى النهاية إلى عدم القدرة على الإنتاج والإنجاز، على أنه لم يستطع أن ينجو بنفسه من كل العواصف، رغم جهوده الكبيرة التى بذلها للتوفيق بين الفكر اليسارى والسلطة.
هذا أمر يخص الشرقاوى، لكن ما الذى يعنينا نحن ونحن نبحث فى علاقته بالنبى، صلى الله عليه وسلم، ليس علينا إلا أن نستكمل ما قاله النقاش: لم يصطدم الشرقاوى فقط بمشكلة السلطة التى حلها بطريقته، وهى التحالف والمهادنة، فقد اصطدم أيضًا بمشكلة أخرى خطيرة، هى مشكلة التوفيق بين الفكر اليسارى والتراثين العربى والإسلامى، وقد جاءته هذه الفكرة منذ وقت مبكر فى أواخر الخمسينيات، ولا شك أنه كان يدرك أهمية هذه الفكرة بعمق موهبته وخصوبة شاعريته التى كانت تمتد بجذورها إلى الشعر العربى القديم بما فيه من خطابة وقوة موسيقية ظاهرة وقدرة على الوصف والاستطراد.
كان الشرقاوى- كما يقول النقاش- يدرك بهذه المواهب كلها أن الفكر اليسارى إذا انعزل عن التراث فسوف يبقى فكرًا جافًا غريبًا ضعيف التأثير، ولم يكن الشرقاوى يطيق لفنه وفكره أن يكون قطعة باردة معروضة فى متحف يتفرج عليها الزائرون والسائحون، كان محبًا لحرارة الحياة عاشقًا لرؤية النتائج الفعلية للكلمة، والفكرة واضحة جلية أمام عينيه فى حياة الناس، وما كان شىء من ذلك يمكن أن يتحقق إلا بالدخول القوى فى عالم التراث، وأهم ما فى هذا التراث هو التاريخ الإسلامى والفكر الإسلامى، وهنا دخل بأفكاره الجديدة إلى التاريخ والفكر الإسلامى، وقدم أعمالًا بارزة فى هذا المجال بدأت بكتابه «محمد رسول الحرية».
اجتهد الشرقاوى فيما أراده، لكنه الاجتهاد الذى بدلًا من أن يثاب عليه جعله فى مرمى السهام من الجميع.