رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود خليل يكتب: رجل وامرأة وفيل.. ورمضان

محمود خليل
محمود خليل

للطرائف والغرائب قيمتها فى حياة المصريين، فنحن شعب، بطبيعته، ميال إلى الفرجة، وتعلو قيمة الأحداث الطريفة والعجيبة عندما تقتحم حياة العائشين فى بر المحروسة خلال شهر رمضان، وقد شهد منتصف شهر رمضان من عام ١١٩١ هجرية الموافق ١٧ أكتوبر عام ١٧٧٧ حادثة فريدة خلبت عقول المصريين، وكانت مثار حديثهم على مدار باقى أيام رمضان من ذلك العام، أبطال الحادثة رجل وامرأة وفيل، الرجل كان يعمل حمالًا يقضى يومه متنقلًا بين حوارى المحروسة وأزقتها يقدم خدماته لمن يريد، من حى إلى حى ومن حارة إلى حارة كانت أقدام الحمال تتشقق بحثًا عن الرزق. عاش المسكين، مثل آلاف المصريين فى ذلك العصر، يحلم بالزواج حتى تزوج من امرأة بسيطة من ذرارى القاهرة، بعدها باغته حلم الإنجاب فحلم بطفل، لست أدرى أيحمل عنه أو يحمل مثله الأثقال عن البشر؟ دعا ربه فاستجاب له وحملت زوجته، غمرته الفرحة فى مشاوير يومه التى يقضيها فى حمل الأثقال حتى شعر بأن كل شىء خفيف الوزن، وكلما اقترب موعد الإنجاب كانت فرحته تزيد والآمال ترفرف من حوله. كان سعيدًا للغاية وهو يتوقع أن يرى مولوده وجه الحياة خلال أيام رمضان كما تقول حسابات القابلة التى ترعى زوجته.
بدت الزوجة أشد سعادة من زوجها عندما أنبأتها القابلة بالحمل، فمنذ عقود طويلة وثقافة الأسرة المصرية لا تتغير، وكل زوجة تعلم أنها إذا غلبت زوجها بـ«العيال» فسوف يغلبها بـ«المال»، حتى لو اضطر الحمال المسكين إلى حمل جبل الجيوشى أو جبل المقطم فوق ظهره. فلا بد أن يحضر المال إذا كان يريد العيال، وكما جرت عادة المصريين جاءت النصيحة للزوجة من جاراتها البسيطات عندما هل هلال شعبان بضرورة السير لمسافات طويلة حتى تسهّل على نفسها آلام المخاض وترزق بولادة سهلة يسيرة خلال شهر رمضان الذى تقترب أيامه، وأجمل السير هو السير بين الحدائق والأشجار، وحى بركة الفيل ليس بعيدًا عن سكنها، كان الحى فى ذلك الوقت متنزهًا شهيرًا بالقاهرة، حيث يجرى فيه ماء النيل، وتلف به الأشجار من كل جانب، وتنتشر فيه البيوت العامرة والبساتين الزاهرة، أما الأجمل فكان يظهر عندما تصافح عيناك مشاهد الحيوانات المنتشرة هناك وهى تشرب من ماء البركة، وكان أشهر هذه الحيوانات وأكثرها إثارة على الإطلاق هو «الفيل»، مشهد الفيل وهو يشرب كان بالنسبة للمرأة رائع التكوين، وكان شغفها بتأمل هذا الحيوان الضخم وهو يمد خرطومه ليغترف الماء ثم يلقمه فى فمه حتى يرتوى لا يفوقه شغف، ما أكثر ما وقفت تتأمل وجه الفيل وقد كساه الرضا والإحساس بالسعادة بعد أن روى ظمأه.
لم تكن المسكينة تعلم أن محنتها فى نظرتها الشغوفة المنبهرة إلى وجه الفيل. حل يوم ١٥ رمضان وجاءها المخاض، والتفت النسوة من حولها ما بين ناصحات ومساعدات، وبهت الجميع عندما نظروا إلى فم القابلة المفتوح وهى تدعوهم إلى تأمل ملامح الطفل، فوجئوا، كما يحكى الجبرتى فى «عجائب الآثار»، بأن للطفل وجه فيل، الأذنان والنابان الخارجان من فمه جعلاه أشبه بخلقة الفيل «ولست أدرى كيف يولد طفل بأنياب!». احتار الناس فى الأمر وبسذاجة ذلك العصر ردوا ما حدث إلى أشهر الوحام «الوحم»، وقالوا إن سر ذلك أن المرأة «توحمت» على الفيل وهى تتأمل وجهه فى البركة فانطبع وجه الفيل على وجه صغيرها، شغلت الحادثة أهالى القاهرة بقية شهر رمضان من ذلك العام وأخذوا يقتحمون بيت الحمال المسكين وزوجته المكلومة للفرجة، ومن فرط تعب الزوجين من تزاحم الناس عليهما أعطوهم الوليد فأخذ الناس يطوفون به فى الأزقة ليفرجوا أمة المصريين عليه.