رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فلسفة الغناء.. بين «الرَّصد» و«الترصُّد»!


في عصر سلطة الاحتلال الإنجليزي القهري لخريطة القطر المصري؛ والتحالف المشين بينه وبين الجالس على العرش صاحب الأصول التركية؛ لم يقف الشعب المغلوب على أمره صامتًا؛ بل انطلق يحارب الاحتلال والقصر بأغنية الشارع التي لم تستطع أية سلطة إيقاف سريانها في وجدان الإحساس الجمعي؛ ليرددها الأطفال في الشوارع والحواري والأزقة والعطوف، ومن الطريف أنه عند عودة الزعيم "سعد غلول" من المنفى بعد ثورة 1919 منعت السلطات البريطانية الهتاف باسم "سعد زغلول"؛ فقام الشاعر والمسرحي الفذ "بديع خيري" بالتحايل على سلطة الاحتلال وكتب أغنية " يا بلح زغلول يا حليوة"؛ يقول فيها: (يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح.. يا بلح زغلول يا زرع بلدى.. عليك يا وعدى.. يا بخت سعدى.. عليك أنادى فى كل وادى.. قصدى ومرادى) لتلتقطها "أوتار عود" فنان الشعب الشيخ سيد درويش الذي يقوم بتلحينها كنوع مما يسمونه في لغة النقد الأدبي بالإسقاط الفني للتعبير عن جذوة الوطنية المتوهجة في ضمير الأمة المصرية المتطلعة إلى الاستقلال والحرية.

هكذا كانت المقاومة في عنفوان عصر الاحتلال والحنين إلى كسر الأغلال ونيل حرية الوطن، على النقيض مما نراه الآن من تقاعس وتراجع الأغنية الوطنية التي لم تسر قيد أنملة منذ رحيل الفنان "بليغ حمدي" الذي قام بالغناء "على الربابة" في مساء السادس من أكتوبر 1973؛ وتوقف كبار الملحنين عن تقديم الأغنية الوطنية الجادة أمثال الفنانين من الموسيقيين الأفذاذ الكبار( مع احترامي للألقاب ): "محمد الموجي" و"كمال الطويل" و"سيد مكاوي" و"عبد العظيم محمد"و" محمد سلطان" و"حلمي بكر" و"سيف الدولة حمدان" وغيرهم. هؤلاء العمالقة الذين شدت بألحانهم الكثير من الأصوات والحناجر الوطنية الصادقة. ولعل لهذا العديد من الأسباب أهمها: عدم تقديم التمويل والدعم المادي الكافي لإنتاج هذه الأغنيات؛ واتجاه الشعراء وكتاب الأغاني إلى تقديم شعر تترات برامج الـ"توك شو" سريعة العوائد المادية، دون الالتفات الجاد لأهمية الأغنية الوطنية في حشد الإحساس الجمعي لينصهر في بوتقة واحدة مكثفة تفي بالأهداف المطلوبة؛ وأيضًا غياب استراتيجية مؤمنة بالرسالة السامية لمفاهيم تأثير الأغنية في الوجدان الشعبي؛ والتركيز على "أغاني الساندوتش" على طراز أغاني "الهامبورجر" الأمريكي التي يتغنون بها على السكارى في حانات لاس فيجاس ولوس أنجلوس وعلب الليل في الشوارع الخلفية.

ولعلي أتساءل ـ وتتساءلون معي ـ في دهشة: ألم تحرِّك كل تلك الإنجازات الوطنية العملاقة ـ التي نراها على الواقع المصري ـ قريحة الشعراء وكتاب الأغاني؛ لتكسر موجة الأغنيات الهابطة التي زحفت إلينا مع "سائقي التاكسي" العائدين من صحراوات الخليج بأصواتٍ لا تصلح حتى للنداء على "البطيخ" و"الجميز" في حواري المحروسة؟!

إن للغناء فلسفته الخاصة وإيقاعاته التي لا تغيب عن الأذن المرهفة الواعية بجماليات الكلمة واللحن وتأثير رجع الصدى في الوجدان؛ فتصير كمن ينحت بإزميل الجمال على جدران الروح؛ وتظل في حناياها من المهد إلى اللحد، ولي الحق في أن أطالب بسرعة تشكيل "لجان قراءة" لإبداعات الكتاب والشعراء المتخصصين من جميع المراحل العُمرية؛ فالإبداع لا يرتهن بسن معينة، فلديهم بحارٌ واسعة من الإنجازات القومية الرائعة؛ التي يستطيعون أن يغمسوا أقلامهم فيها ليكتبوا لنا كلمات كسلاسل الذهب لتزيين "جيد" وطننا الغالي؛ كي تصير تراثًا غاليًا للأجيال القادمة كحقيقة ملموسة نتعايش في أعماقها بلا إسقاطات أو تورية؛ لأنها منطوقة بكامل الحرية التي نحيا تحت رايتها في أجمل لحظات يعيشها الوطن ونملك فيه إرادتنا وأقدارنا؛ برغم الحرب الضروس التي نجابهها من أعداء الداخل والخارج.

لقد كتب أسلافنا أجمل الأغنيات الوطنية تحت نير الاحتلال ومظلته! ما بالنا بمن يكتب في ظلال الحرية متطلعًا بعين الإنصاف والانتماء الحقيقي لتراب الوطن إلى ما يتحقق على أرض الواقع من إنجازات، وفي هذا الصدد فإنني لا أعفي "جهاز الإعلام" الرسمي من مسئولية غياب هذا اللون من الفن الراقي؛ ليكون بمثابة "جبرتي العصر" لتوثيق تلك النجاحات على أرض الواقع المصري، ومن العيب أن تتخطاه بفراسخ اجتهادات المخلصين في مجالات الثقافة غير الرسمية بإمكاناتها الفقيرة، لتخطف الكاميرا ألحان مطربي الندوات والأمسيات الشعرية في ليالي المحروسة؛ دون أن "ترصدهم" عيون كاميرات الإعلام الرسمي للإضاءة عليهم، بدلًا من أن "تترصدهم" عيون الحاقدين الساعين إلى خروجهم من ميدان الفن الحقيقي الذي يعبر عن الوجدان الأصيل للغالبية العظمى من الشعب المتعطش لهذا اللون من الفن، والبون شاسع بين "الرصد" و"الترصُّـد"!

إننا ننتظر الدعوة الجادة للمبدعين أصحاب الكلمة الوطنية الفارقة والطيبة، ولا مانع من تخصيص جوائز مادية وعينية للمجيدين من الشعراء والموسيقيين؛ فالفنان إنسان في الأول والأخير له متطلباته الحياتية الكريمة؛ وحتى لا يقبع على أرصفة الانتظار.. فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، ولا يحيا بالتصفيق "جائع".. حتى (لو) كان على خشبة الأوبرا!

◄أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعي بأكاديمية الفنون