رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المناضلون فى الدراما.. فى بيتنا رجل لكن لا وقت للحب


كلنا يحب المناضلين، وقد نرى أنفسنا فيهم، حتى فى لحظات ضعفنا نتمنى أن نكون هم، والحق أن الإنسان خُلق بطبيعته مناضلًا، وسعى فى الحياة وهو يناضل، ولولا نضال الإنسان لانقرض وانتهى من الوجود، فقد ناضل ضد الطبيعة بقسوتها وخشونتها، حتى استطاع ترويضها، وناضل ضد الوحوش الكواسر، وناضل ضد الظلم والظالمين، حتى ذلك النضال الصغير كلنا نمارسه، الكاتب يمارس نضاله حتى تخرج كلمته إلى النور، والموظف الصغير يناضل فى وظيفته ضد شظف العيش وتسلط الرؤساء عليه، والفقير الذى ينظم حياته ليكفيه بعض كسرات من الخبز، هو فى الحقيقة يناضل، بل إن الإنسان يمارس نضاله أحيانًا عن طريق ضعفه، وبضعفه قد يقهر الأقوياء، وقد كان الزعيم الهندى غاندى أكبر مثل لنضال الضعيف ضد القوى.

وشخصية المناضل دائمًا ما تحظى بحبنا وإعجابنا، لذلك نالت هذه الشخصية اهتمامًا كبيرًا فى الدراما المصرية، والحق أن كُتَّاب الدراما الكبار الذين أبدعوا فى رسم الشخصيات المناضلة كانوا أفذاذًا، وقد انعكس هذا على أداء الفنانين الذين قاموا بأداء تلك الأدوار فأبدعوا، وقد كانت فترة الستينيات من القرن الماضى هى الحقبة الذهبية لأفلام النضال، وما ذلك إلا لأن النظام الثورى الناصرى كان قد وضع «النضال» عنوانًا رئيسًا له، ولذلك كان لا بد أن تتحرك القوى الناعمة مع النظام لترفع من قيمة فكرته فى قلوب الناس، وأول هذه الأفلام كان فيلم «فى بيتنا رجل»، وهو مأخوذ عن قصة الروائى الكبير إحسان عبدالقدوس، كان المناضل هنا هو الشاب «إبراهيم حمدى»، الذى أدى دوره الفنان العالمى عمر الشريف، وإبراهيم ليس كأى مناضل، فهو من أعلى المناضلين فى درجات البطولة، فهو كان يناضل ضد الاحتلال الإنجليزى، ولأنه كان يريد القضاء على أعوان الاستعمار، لذلك رأى أن رئيس الوزراء هو أحد عملاء الإنجليز، فدبر أمره واغتاله، كانت شخصية إبراهيم حمدى هنا مأخوذة من الواقع، ففى عام ١٩١٠ قام الصيدلانى الشاب إبراهيم الوردانى باغتيال بطرس غالى، رئيس وزراء مصر، واعترف الوردانى بفعلته وبررها بأن بطرس غالى كان قد قدم مشروعًا لكى يتم تمديد مدة امتياز قناة السويس للإنجليز والفرنسيين أربعين عامًا تبدأ من عام ١٩٦٨، والغريب أن سعد زغلول كان وزيرًا للحقانية وقتها، وكان من أكثر الوزراء دفاعًا عن هذا التمديد أمام الجمعية العمومية «البرلمان فى صورته القديمة»، أما الذى كشف عن هذا المشروع للرأى العام فهو محمد فريد، رئيس الحزب الوطنى، وفى مستقبل الأيام أصبح سعد زغلول زعيمًا وطنيًا كبيرًا، ونسى الناس أنه كان أكبر مؤيد لهذا التمديد، وأصبح محمد فريد مناضلًا مصريًا كبيرًا، ولكن بطرس غالى هو الذى دفع الثمن، وكان الثمن حياته، وأصبح إبراهيم الوردانى مناضلًا أحبه المصريون كثيرًا وكتبوا عنه الأشعار، حتى قبل تنفيذ حكم الإعدام شاعت أغنية شهيرة عنه هى «قولوا لعين الشمس ما تحماشى لاحسن غزال البر صابح ماشى».
إذن كان إبراهيم حمدى «فى بيتنا رجل» هو إبراهيم الوردانى الذى اغتال بطرس غالى، ويبدو أن «الوردانى» كان قد أصبح ملهمًا للأدباء، لذلك اقتبسه إحسان عبدالقدوس، ورسم شخصيته، وأضاف لها أبعادًا إنسانية ومشاعرية، وصنع له قصة هروب بعد صدور الحكم عليه، ثم كان ولا بد أن تدخل الأسرة المصرية البسيطة فى هذا النضال، فالموظف المسالم «زاهر أفندى» والد صديق المناضل إبراهيم حمدى يوافق بشهامة المصرى على أن يؤويه فى بيته، فإبراهيم هو صديق لابن هذا الموظف فى الكلية، وما كان المصرى ليتخلى عن إنسان فى أزمته، أو يتهرب من إخفائه فى بيته مهما كانت التبعات، ويعيش إبراهيم فى هذا البيت البسيط، وتنشأ علاقة حب بينه وبين الابنة الصغرى للموظف، وما بين النضال ضد المستعمر والحب تدور قصة هذا المناضل.
ولأننى مثل كل المصريين، أو قل لأننى إنسان، فقد أحببت هذا المناضل، وتعاطفت معه، ولم يرد فى بالى وأنا أشاهده يتحرك فى أحداث القصة أى سؤال عن مشروعية ما قام به، فهو لم يقتل واحدًا من المحتلين، ولكنه اغتال مصريًا مثله، ومع ذلك فقد ألقيت هذا التساؤل فى بئر عميقة داخل نفسى، فالذى كان يهمنى هو أن هذا الشاب ضحى بمستقبله، ثم بحياته من أجل أن يُسهم ولو بقدر ضئيل فى تحويل حياة الإنجليز فى مصر إلى جحيم، وقد كان لأداء عمر الشريف لهذه الشخصية أثر كبير فى تحويل «إبراهيم حمدى» إلى قديس للحركة الوطنية، ولم تكن براعة الشريف تتمثل فى قدراته التمثيلية الفذة، ولكن فى شىء آخر، هو أنه لم يكن يمثل، ولكنه كان يعيش الشخصية، ويندمج فيها بكل كيانه، يستشعر آلامه، ويمارس مشاعره، وكأن إبراهيم الوردانى الحقيقى عاد إلى الحياة مرة أخرى فى صورة إبراهيم حمدى، ثم تجسد فى عمر الشريف، وكان أعلى ما فى معايشة الشريف للشخصية هو لمعة عينيه، انظر لعين عمر الشريف فى لحظات مقاومته المحتل، وفى لحظات تفجيره معسكرًا إنجليزيًا، وانظر إلى عينيه وقت إصراره على الاستمرار فى مصر وعدم الهروب للخارج، وانظر إلى لمعة عينيه وهو يحب تلك الفتاة الصغيرة التى آمنت به وبنضاله، ستعرف أنها لمعة فريدة لا تتكرر، بل ولم يستطع عمر الشريف أن يكررها فى أفلامه الأخرى.
ولكن بعد كل هذا السنوات من إنتاج هذا الفيلم الذى خرج إلى النور عام ١٩٦١ أخذت أبحث فى علمٍ يُسمى «علم نفس الشعوب» وناوشتنى الأفكار، لماذا نال إبراهيم الوردانى، أو إبراهيم حمدى، الذى اغتال شخصية مصرية، كل هذا التعاطف والإعجاب، من العوام والمثقفين والأدباء! فى الوقت الذى لم يتذكر أحدٌ من كتاب الدراما حادثًا آخر كان من أعظم صور المقاومة المصرية ضد الإنجليز، وهو اغتيال السردار البريطانى «السير لى ستاك» قائد الجيش الإنجليزى فى مصر عام ١٩٢٥؟! وكانت التى اغتالت هذا السردار مجموعة من الشباب المصرى المناضل يتزعمها الشاب عبدالفتاح عنايت، الطالب بكلية الحقوق، ومعه شقيقه عبدالحميد عنايت، ومعهم عدد آخر من الشباب حُكم عليهم جميعًا بالإعدام، وقام سعد زغلول، رئيس الوزراء، بتقديم اعتذار للإنجليز، بالإضافة إلى غرامة دفعتها مصر قدرها نصف مليون جنيه، أعقبها حل البرلمان، لماذا لم يتم تخليد تلك القصة؟ ولماذا لم يتناول أحد كتاب الدراما هذا النضال الحقيقى الذى تم توجيهه مباشرة لقائد الجيش الإنجليزى، بدلًا من نضالنا الذى قمنا فيه بتوجيه سلاحنا إلى صدورنا؟! ولكن للشعوب مشاعرها، والمشاعر لا يمكن إخضاعها للمنطق.
وإذا كان إبراهيم حمدى «فى بيتنا رجل» هو المناضل المصرى الذى نال قدرًا كبيرًا من التعاطف والحب، فإن مناضلين آخرين فى الدراما نالوا نفس المنزلة، فلا يمكن لأحد أن ينسى المناضل «على طه» فى فيلم «القاهرة ٣٠» الذى أداه بصدق الفنان الراحل عبدالعزيز مكيوى، و«القاهرة ٣٠» هو درة من درر السينما المصرية عبر تاريخها، وكيف لا يكون وهو من إبداع أمير الرواية العربية نجيب محفوظ، كان المناضل هو إحدى الشخصيات الرئيسية فى الفيلم، أو هو الخط النقى البرىء الذى آلى على نفسه أن يناضل ضد الاحتلال والملكية، ولو عن طريق المنشورات، كان هو المناضل الشيوعى الذى يرى أن الحل فى الثورة على الملكية، إلا أن عبدالعزيز مكيوى مارس نضاله فى الفيلم كما كان يمارس حياته، فهو فى الحقيقة كان مثقفًا اشتراكيًا، وقد انتهت حياته بشكل مأساوى، وإذا حدث ونسى الناس الفنان مكيوى، فلن ينسى أحد المناضل على طه فى «القاهرة ٣٠».
نأتى إلى الرائعة، إلى الدرة الثمينة، «لا وقت للحب»، التى أبدعها الملك يوسف إدريس، وأخرجها صلاح أبوسيف، فما بالك لو كان بطلها هو رشدى أباظة، الذى أدى فيها شخصية المناضل الاشتراكى «حمزة»، وكان أباظة قد وصل وقتها إلى قمة النجومية، وارتفع إلى آفاق النضوج، وما بالك لو كانت الشخصية الأخرى معه هى سيدة الشاشة فاتن حمامة، هذا فيلم جمع بين أعظم من أنجبت مصر فى مجالاتهم تأليفًا وتمثيلًا وإخراجًا، ولذلك عشت مع شخصيات هذا الفيلم بكل كيانى، فحمزة المناضل، أحد قادة المقاومة الشعبية ضد الإنجليز، والذى أصبح مطاردًا من قوات الأمن بشكل دائم، ثم يتعرف على مدرسة تُعجب به فتدعى أنها عضو فى إحدى جمعيات المقاومة النسائية، وللمصادفة كان إبراهيم حمدى فى فيلم «فى بيتنا رجل» قد وقع فى حب فتاة مسالمة هادئة رومانسية آمنت به وبقضيته الوطنية، ونفس الشىء فى «لا وقت للحب» يقع المناضل حمزة فى حب فوزية المدرسة الجميلة التى آمنت به وبقضيته الوطنية، وكلاهما حمزة وإبراهيم كان يناضل ضد الاحتلال، وكلاهما كان قائدًا فى نضاله.
وحينما يقرر حمزة نقل عمليات المقاومة الشعبية إلى معسكرات الإنجليز فى مدن القناة، تساعده المدرسة فوزية فى نقل الأسلحة إلى هناك من خلال وضع الأسلحة فى تابوت يتصدر جنازة وهمية، وإذا كان إبراهيم حمدى فى «فى بيتنا رجل» شابًا صغيرًا لا يزال طالبًا فى إحدى الكليات، فإن حمزة كان مهندسًا فى أوائل الثلاثينيات من عمره، بلغ قدرًا من النضوج، وله تاريخ فى النضال، ولأن بنيان حمزة «رشدى أباظة» قوى، وعضلاته مفتولة توحى بأنه مقاتل صاحب خبرة فى مجالات حرب الشوارع، لذلك كان اختياره لأداء هذه الشخصية هو قمة التوفيق، وكان أعظم ما فعله رشدى أباظة هو أنه أدى شخصية حمزة عن طريق السهل الممتنع، بلا تكلف أو تصنع، ليرسم أمامنا صورة للمناضل الثورى، الذى يتشابه فى كثير من صفاته مع «شى جيفارا».
ولا أنسى ما حييت أننى عندما شاهدت هذا الفيلم فى التليفزيون عام ١٩٦٨ بعد هزيمة ١٩٦٧، وقتها كنت طفلًا صغيرًا عرف معنى ما تعرضنا له، كان هذا الطفل ينتظر لحظة ولو صغيرة يسترد فيها ثقته فى بلاده، وفى قدرتها على رد العدوان، وإذا بفيلم «لا وقت للحب» يُعرض على الشاشة، وتأتى خاتمة الفيلم ليظهر فيها المناضل حمزة وهو عائد إلى المدينة بعد عملية كبيرة قام فيها مع أفراد المقاومة بتفجير معسكر للإنجليز، ويحاصر الجيش الإنجليزى الشارع الذى كان حمزة فى طريقه إليه، وإذا بالأطفال الصغار الذين وقت عرض الفيلم كانوا يماثلوننى فى العمر تقريبًا، إذا بهم يصعدون على أسطح العمارات، وفى الحوارى والطرقات، ينشدون نشيدًا شعبيًا لتنبيه البطل حمزة، «إوعى تخش العشة يا ديك لاحسن الديب مستنيك»، وتتصاعد أصوات الأطفال، ويغنى معهم الكبار حتى تصل الأصوات لحمزة، وإذا بى دون أن أشعر أغنى معهم، وأشاركهم فى التنبيه، وعندما تنبه حمزة وفر هاربًا بكيت من الفرحة، وإلى الآن أبكى عندما أشاهد هذا المشهد، فبقدر عبقرية رشدى أباظة كانت عبقرية المشهد.