رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأزمة الليبية.. نحو العودة الى المربع «صفر»



مقال الجمعة الماضية «القيادة العسكرية التركية فى ليبيا تجتاح الساحل الغربى»، أثار قلق بعض القراء.. لأن ليبيا هى الباحة الغربية لأمن مصر القومى، والتغلغل التركي فيها يعنى إطلاق يد الإخوان والإرهابيين لينفذوا ماعجزوا عن تحقيقه فى مصر، وينطلقوا منها لتهديد دول الجوار.. مهمة الكاتب ان يعرض حقائق الموقف كما هى، ويحلل أبعاده، بغض النظر عن إيجابيته من عدمه.. مقال اليوم يتابع عملية تنفيذ المخطط التركى، الذى إستهدف بعد إجتياح الساحل الغربى، إستغلال حالة الإرتباك، والإنتقال بسرعة للسيطرة على مدينة ترهونة، وقاعدة عقبة بن نافع «الوطية».. لكن ذلك لم يصبه النجاح.
ميليشيات السراج تحت القيادة التركية وبمشاركة المرتزقة السوريين شنت هجوما على ترهونة جنوب طرابلس يوم 18 ابريل، إختيار المدينة يرجع الى أهميتها، بإعتبارها آخر معاقل الجيش الرئيسية بمدن طوق طرابلس، وتمثل الخزان البشري الرئيسي له في المنطقة الغربية، بفضل قوات «الكانيات»، التي تمثل رأس حربة الهجوم على العاصمة، بحكم معرفتها الجيدة بأرض المعركة، كما يقع داخلها مركز قيادة عمليات الجيش الرئيسية غرب البلاد، ومقر اللواء التاسع مشاة، أقوى الكتائب غرب ليبيا، وتعتبر نقطة ارتكاز رئيسية في الهجوم على طرابلس، ومنها تنطلق الإمدادات بالأسلحة والذخائر والوقود الوارد من قاعدة الجفرة الجوية، إلى جبهات القتال حول العاصمة.. القيادة التركية إتبعت فى الهجوم على ترهونة، نفس التكتيك الذى طبقته عند إجتياح صرمان وصبراتة ومدن الساحل الغربى، عبر ضغط جوي كثيف ضد مراكز القيادة، والتمركزات الدفاعية للجيش، يعقبها هجوم بري بقوة نارية كبيرة.. لكن قيادة الجيش كانت قد إستوعبت الدرس، وإستعدت بنشر وحدات الدفاع الجوى الروسية من طراز «بانستير اس1»، فأسقطت الطائرات الخمس المسيرة التركية التي كُلِفَت بشن الهجوم التمهيدي، ما ادى لتنفيذ خطة الهجوم البرى دون دعم جوى.
الهجوم على ترهونة إنطلق من خمس محاور رئيسية.. الأول: المحور الشمالى.. رأس الحربة فيه كتائب مصراتة، القادمة من المحور الساحلى.. الثانى: محور شرق ترهونة «مسلاتة»، ضم كتائب قادمة من مدينتي زليتن والخمس «شرق طرابلس».. الثالث: محور غرب ترهونة «طويشة»، إستهدف التقدم نحو بلدة سوق السبت «جنوب المطار القديم»، لفتح الطريق نحو ترهونة.. الرابع: محور غريان «جنوب غرب ترهونة»، إنطلق باتجاه منطقة فم ملغة، البوابة الغربية لترهونة.. الخامس: محور جنوب طرابلس.. تكون من رأسي حربة؛ الأول محور المشروع الذى يحاذي حي أبوسليم جنوب العاصمة، والثاني محور صلاح الدين.. الجيش و«الكانيات» نجحوا فى صد الهجوم على ترهونة، بعد تحييد الجهد الجوى التركى، مايفسر عمليات القصف الصاروخى الإنتقامية ضد المناطق السكانية فى المدينة.
رغم تعثر هجوم ترهونة الا ان الخطة التركية تستهدف السيطرة على المدينة قبل منتصف رمضان، لأن إستمرار خضوعها مع قاعدة «الوطية» للجيش، يفرغ السيطرة على مدن الساحل الغربى من أهميتها، بينما سقوطهما يعنى بدء مرحلة جديدة، من إستعادة المدن الاستراتيجية وسط ليبيا، تبدأ بمدينة سرت التي دخلها الجيش يناير الماضي، باعتبارها بوابة العبور إلى منطقة الهلال النفطي، التي تستحوذ على 80% من النفط الليبي، إضافة إلى أنها تقع بها قاعدة «الجفرة» الجوية، أهم القواعد التي تمدّ قاعدة «الوطية» بالإمدادات العسكرية، مما يهدد الجنوب، ويحاصر الشرق الليبي.. تلك المخاطر تفرض مراعاة أقصى درجات اليقظة والحذر.. التشكيلات العسكرية ينبغى ان تلتزم بتعليمات قيادة الجيش، بعدم التحرك دون غطاء منظومة الدفاع الجوي، لتجنب الإستهداف من قِبل الطيران التركى، خاصة انه يتجه نحو الإعتماد على مقاتلات «أف 16»، بعدما تبين عجز طائرات «بيرقدار» المسيرة عن تحقيق السيطرة الجوية، وامتلاك زمام إدارة دفة المعارك.. هيئة الأركان العامة اليونانية أكدت أن 16 مقاتلة تركية عبرت نحو الأجواء الليبية وسط البحر المتوسط، فاعترضتها بسرب طائرات حربية يونانية من نفس الطراز «إف 16» ما أجبرها على الإنسحاب والعودة لقواعدها، هذا التطور بالغ الخطورة، ويؤكد ما تم رصده من قيام طائرات «إف 16» التركية بقصف مواقع الجيش الليبى بمدن الساحل الغربى قبل إجتياجها.. تركيا تصعد من تدخلاتها دون مراعاة لأى حدود.
معركة طرابلس شهدت إنقلابًا في موازين القوى منذ أطلق السراج تحت القيادة التركية عملية «عاصفة السلام» 25 مارس الماضي، التي إستهدفت الانتقال من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم، وكسرت الحظر الجوي الذي فرضه الجيش الوطنى منذ منتصف يناير الماضي على محيط العاصمة، إعتماداً على قاعدة «الوطية» الجوية، وبدأ الطيران التركى يسيطر على سماء العمليات لأول مرة، وتمكن من إحتلال الساحل الغربى، وفك الحصار حول طرابلس من ناحية غرب وجنوب غرب ترهونة، مما قلب معادلة التوازنات رأسا على عقب.. هذا الإختلال يرجع الى انه فى الوقت الذى تراجع فيه تدفق الدعم العسكرى للجيش الوطنى الليبى نسبياً، نتيجة إنشغال الداعمين الإقليمين بمواجهة انتشار وباء «كورونا»، فإن تركيا سعت لإستغلال تلك الظروف فى وضع يدها بصفة نهائية على ليبيا، وفرض وجودها العسكرى كأمر واقع يصعب تغييره مستقبلاً.. أهم النتائج التى بمكن ان تترتب على ذلك هو تراجع طموحات الجيش الليبى فى تحرير العاصمة من الإرهاب، وإنشغاله بالدفاع عن مدينة ترهونة آخر معاقله في الغرب، وقاعدة «الوطية» آخر قواعده الجوية الإستراتيجية.
الأطراف المتصارعة تراهن على الولاءات القبلية، لأن دورها فى المجتمع الليبى حاسماً.. أبناء قبائل شرق ليبيا شكّلوا خزانًا بشريًا للجيش الوطنى منذ إنطلاق «عملية الكرامة» منتصف 2014، وكذلك في حروبه المتتالية ببنغازي وأجدابيا والهلال النفطي ودرنة، وصولًا إلى معركة طرابلس الأخيرة، حيث فشل السراج في اقتحام ترهونة بسبب الدعم القبلي المقدم للجيش.. الطيران التركى بعد فشل الهجوم بدأ فى حصار ترهونة، بإستهداف خطوط إمداداتها الرئيسية من الوقود عبر بنى وليد، مادعى الأخيرة لإرسال وفد الى مصراتة للتفاوض بشأن تأمين خطوط الإمداد، مايعنى احتمال نزوعها للحياد خلال الفترة المقبلة، وضرورة توفير مصادر بديلة.. ميليشيات السراج إستهدفت أيضاً قاعدة الجفرة لإستكمال الحصار وقطع طرق الإمداد منها الى ترهونة ومن ثم الى جنوب طرابلس.. وهناك محاولات اتصال من غرفة عمليات السراج مع رجال قبائل ترهونة لإقناعهم بدخول المدينة دون قتال، لكنها لم توفق.. التوازن العسكرى بين الأطراف المتصارعة فى ليبيا، نتيجة الإنخراط التركى، ومشاركة المرتزقة، عقَّد ظروف المواجهة العسكرية، وزادها صعوبة، مايفسر عودة الجيش والبرلمان للرهان على الجماهير.
المشير حفتر قائد الجيش القى كلمة 23 ابريل، حمَّل فيها المجلس الرئاسى مسئولية تدهور المشهد السياسي والاقتصادي، وطالب الليبيين بالخروج وإسقاط إتفاق «الصخيرات يناير 2015» وما نتج عنه من تنصيب غير مشروع لـ«عصابة فايز السراج»، وتفويض المؤسسة التي يرونها مناسبة لقيادة المرحلة، مؤكدًا أن «القوات المسلحة ستكون الضامن لحماية اختيارهم»، وحذر من «أن المجلس الرئاسي يتفاخر بجرائم المليشيات في صبراته وصرمان، ولكن فرحته لن تدوم».. عقيلة صالح رئيس مجلس النواب القى كلمة فى نفس اليوم، ضمَّنها خارطة طريق لحل الأزمة الليبية، تستند على تولى كل إقليم «برقة، طرابلس، وفزان» إختيار من يمثله بالمجلس الرئاسي، سواء بالتوافق أو بالاختيار السري تحت إشراف الأمم المتحدة.. وبعد اعتماد المجلس الرئاسي بتسمية رئيس الوزراء ونواب يمثلون الأقاليم الثلاثة، وتشكيل الحكومة، يتم عرضها على مجلس النواب لنيل الثقة، ويكون رئيس الوزراء والنواب شركاء في اعتماد قرارات مجلس الوزراء، ومن مهام المجلس تشكيل لجنة من الخبراء والمثقفين، لصياغة دستور للبلاد بالتوافق، تتم بعدها تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية، تنبثق عن الدستور المعتمد الذي سيحدد شكل الدولة ونظامها السياسي.. المبادرة جيدة، إستجابت لها جماهير المدن التابعة للجيش، وحفتر أعلن قبول القيادة العامة تفويض الشعب لإدارة البلاد، وأطلق رصاصة الرحمة على اتفاق الصخيرات.. لتعود الأزمة الى المربع «صفر»، ويزداد تعميق الإستقطاب، لأنه يتم بعيداً عن المصالح الدولية والإقليمية المتعارضة المحركة للأزمة.
أحيراً، نقول لأولئك الذين يصيبهم النصف الفارغ من الكوب بالقلق، ان الموقف من الناحية الإستراتيجية لم ينقلب تماما ضد الجيش الوطنى، لأنه لازال يُحكِم سيطرته على المنشآت النفطية، وعلى المنطقة الجنوبية، إضافة الى المنطقة الشرقية، وهذا يعزز موقفه فى حالة التفاوض، اما لو قرر الطرف الآخر الإستمرار فى تحدى الحرب، دون دعم خارجى للجيش الوطنى، فإن مسار العمليات الأخيرة فى المنطقة الغربية، يعكس توازناً فى القوى العسكرية، ما يفرض التحسب لنية السراج المعلنة، بمحاولة فرض السيطرة على كل الأراضى الليبية.. وهذا يعيد الأزمة من جديد الى المربع «صفر».. مما قد لاتسمح به القوى الإقليمية والدولية.