رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرسول فى مصر «7»

محمد الباز يكتب: طه حسين.. عاشق الرسول الذى ظلمناه حيًا وميتًا

محمد الباز
محمد الباز

ادخل على اليوتيوب، اكتب «طه حسين يحب الرسول»، سيقابلك فيديو لحلقة من برنامج تليفزيونى اسمه «كاتب وقصة» كانت تقدمه الإعلامية سميرة الكيلانى، وأعادته قناة ماسبيرو زمان مؤخرًا.
كان طه حسين هو ضيف سميرة الكيلانى، سألته مباشرة عن أحب كتبه إليه، دون تفكير رد عميد الأدب العربى، الذى له ما يقرب من ستين كتابًا، بأن أحب كتبه إليه هو «على هامش السيرة»، ودون أن ينتظر استفهامًا من سميرة عن السبب، قال لها: لأننى صدرت فى كتابته حبى لرسول الله، ويأتى بعد هذا الكتاب بعض الكتب التى كتبتها عن الإسلام مثل كتاب «الوعد الحق»، لأنى أحب الذين صاحبوا النبى.
لا تندهش أرجوك، أعرف أن لديك صورة مشوشة ومشوهة عن طه حسين، رسمها له خصومه، حرصوا فيها على أن يزيدوا من لون عدائه للإسلام والقرآن والنبى محمد، صلى الله عليه وسلم، فى صورته، لكن هذه هى كلماته تستطيع أن تسمعها بنفسك، دون أن أوجهك إلى شىء أو أفرض عليك شيئًا.
لم يكتف طه حسين بما كتبه عن النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، بل قرر أن يشد الرحال إليه، ويسجل العام ١٩٥٥ زيارته إلى الأراضى المقدسة ليؤدى فريضة الحج - وقتها كان رئيسًا للجنة الثقافية للجامعة العربية- وهى الرحلة التى استغرقت تسعة عشر يومًا، تم استقباله فيها استقبال الملوك.
عندما دخل طه حسين إلى مدينة النبى، صلى الله عليه وسلم، أمسك عن الكلام تمامًا، حاول رجال الصحافة أن يُجروا معه حوارات صحفية، أو يحصلوا على تصريحات يسجلون من خلالها ما يشعر به وهو يؤدى شعائر الحج، لكنه تمسك بصمته تمامًا، وعندما عاد إلى مصر سألوه عن سر صمته فقال لسائليه: ما كان لى أن أتكلم فى مدينة النبى، صلى الله عليه وسلم، وما كان لى أن أرفع صوتى وقد قال الله تعالى «لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبى».
لا يمكن أن نكون أمام باحث دخل إلى سيرة النبى، صلى الله عليه وسلم، بشغف من يفتش وينقب وينتقد، ولكنه عاشق متيم فى حب النبى، صلى الله عليه وسلم، ففى نفس الرحلة شوهد طه حسين أثناء وقوفه عند الحديبية وهو يأخذ حفنة من التراب ويقبلها.
تعجب من أمسكوا به متلبسًا بهذه الحالة الغرائبية، سألوه، فقال: لعل رسول الله وطئ هنا.
دلونى على أحد غير طه حسين يمكن أن يشعر بهذا الشعور ويعبر عنه بشجاعة، دون أن يلتفت إلى من يمكن أن يزايدوا عليه، سواء كانوا من محبيه أو كارهيه، وهم كثيرون على الناحيتين.
لا يزال لدينا ما هو أكثر، واسمحوا لى أن أفتح معكم كتاب «ما بعد الأيام» الذى ألفه الدكتور محمد حسن الزيات، الدبلوماسى الشهير وزوج ابنة طه حسين، ففيه ما يرسم الصورة الكاملة لعلاقة عميد الأدب العربى الروحية والنفسية بالنبى محمد، صلى الله عليه وسلم.
يقول الزيات: «كم كانت لهفة طه حسين لزيارة الرسول فى مدينته المنورة، ولم يكن هناك من سبيل للوصول إليها إلا بالطائرة، التى لا يحب طه حسين ركوبها، ولم تكن هناك وسيلة بالطريق البرى، لأنه كان مقطوعًا بسبب السيول الغزيرة التى هطلت هذا العام، ولذلك اقترحوا عليه تأجيل الزيارة، لكنه رفض.
وقتها قال طه حسين: لن أغفر لنفسى أبدًا، شوقى إلى هذه الزيارة يتزايد منذ أكثر من سنتين.
صمم طه على زيارة الرسول، واضطر إلى أن يركب طائرة صغيرة غير مريحة اسمها «داكوتا»، هذا رغم أنه رفض دعوات مهمة جدًا إلى أمريكا وروسيا والهند، لأن تلبيتها كانت تستدعى ركوب الطائرات، بل إنه لم يستطع أن يلبى دعوات ابنته وصهره لزيارتهما وهما فى أى منصب فى السلك الدبلوماسى فى أى بلد، لأن الزيارة كانت تقتضى ركوب الطائرة.
كان طه حسين، كما قال لمرافقيه، يعرف أنه لن يتعب إذا استخدم الطائرة لزيارة الرسول، صلى الله عليه وسلم، لكنه سيتعب كثيرًا إذا لم يذهب لزيارته، وهذه كلماته نصًا: «لم يكن من الممكن أن أتخلف عن هذه الزيارة، ولم تكن هناك طريقة أخرى غير الطيارة، كنت أحس أنه لا بد لى من زيارتها، لولا خوف الغرور لقلت إنها كانت دعوة من خارج نفسى، دعوة آمرة، لا بد أن تلبى».
أمام قبر النبى، صلى الله عليه وسلم، كان الأمرمختلفًا تمامًا، يقول هو عن ذلك: «كنت شخصية واعية بلا كلام، وشخصية متكلمة بلا وعى، كانت الشخصية المتكلمة تردد كلام المطوفين والزائرين، وكانت الشخصية الواعية بلا كلام تناجى ربها فى صدق وخشوع».
من بين مرافقى طه حسين فى رحلة الحج كان المفكر الإسلامى الكبير أمين الخولى الذى قال وقد رأى ما جرى: «استلم طه حسين الحجر الأسود، ظل يتنهد ويبكى ويقبل الحجر، حتى وقفت مواكب الحجيج انتظارًا لأن يغادر هذا الأديب الكبير المكفوف مكانه، ولكنه أطال البكاء والتنهيد والتقبيل، ونسى نفسه فتركوه فى مكانه وأجهشوا معه فى البكاء والتنهيد».
عندما عاد طه حسين من رحلته إلى الأماكن المقدسة، سجل التجربة بقوله: «لقد سبق أن عشت بفكرى وقلمى بهذه الأماكن المقدسة زهاء عشرين عامًا، منذ بدأت أكتب (على هامش السيرة) حتى الآن، ولما زرت مكة والمدينة أحسست أننى أعيش بفكرى وقلبى وجسدى جميعًا، عشت بعقلى الباطن وعقلى الواعى، استعدت كل ذكرياتى القديمة، ومنها ما هو من صميم التاريخ، ومنها ما هو من صميم العقيدة، وكانت الذكريات تختلط بواقعى، فتبدو حقائق حينًا ورموزًا حينًا آخر، وكان الشعور بها يغمرنى، ويملأ جوانب نفسى».
أمام الكعبة وأمام قبر النبى، صلى الله عليه وسلم، كان طه حسين يردد: «اللهم أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحق ووعدك الحق، والجنة حق والنار حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت، فاغفر لى ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت أنت إلهى... لا إله إلا أنت».
ولن تتعجب بعد ذلك كله إذا قلت لك إن وصية طه حسين لأسرته كان من بينها أن يكتبوا هذا الدعاء نفسه على ضريحه، وهو ما حدث بالفعل.
المفاجآت لا تزال مستمرة، وأعتقد أنك الآن تحاول تصحيح الصورة الراسخة فى عقلك لطه حسين.
هذه المرة سأصحبكم إلى كتاب «معك» وهو الكتاب الذى وضعته زوجته السيدة سوزان تسجل فيه حياتهما معًا، وتعالوا نتوقف قليلًا عند هذه المواضع من كلامها.
تقول سوزان وكأنها تتحدث معه رغم رحيله: أفكر فى هذا التوافق الخفى الذى وحدنا دومًا فى احترام كل منا دين الآخر، لقد دهش البعض من ذلك، فى حين فهم البعض الآخر، إذ رأى أن بوسعى أن أردد صلاتى، على حين يستمع إلى القرآن عندما أبدأ تسبيحى، بل إنى لأسمعه على كل حال فى أعماق نفسى، كنت غالبًا ما تحدثنى عن القرآن، وتردد لى البسملة التى كنت تحبها بوجه خاص، وكنت تقرأ التوراة، وكنت أتحدث عن يسوع، كنت تردد فى كثير من الأحيان أننا لا نكذب على الله، لقد قالها أيضًا القديس بولس، لا شك أننا لا نكذب على الله، وويل للمكذبين.
وتثبت سوزان ما سبق وأشرنا إليه عن رحلته إلى قبر الرسول، تقول: ما كان يواسيه شىء لو لم يتمكن من رؤية المدينة المنورة، وأعرف كم كان منفعلًا عندما كان يقول لى: حقًا إن الإسلام دين الصفاء والتسامح.
كان طه حسين يملك إذن روحًا تواقة للتحليق فى سماء النبى، صلى الله عليه وسلم، وهو ما نشعر به فى الحالة التى صنعها بكتابه الأقرب إلى قلبه وهو «على هامش السيرة».
دون مقدمات يعترف طه حسين بأن ما كتبه: «صحف لم تكتب للعلماء ولا للمؤرخين، لأنى لم أرد بها إلا العلم، ولم أقصد بها التاريخ، وإنما هى صورة عرضت لى أثناء قراءاتى السيرة فأثبتها مسرعًا، ثم لم أر بنشرها بأسًا، ولعلى رأيت فى نشرها شيئًا من الخير، فهى ترد على الناس أطرافًا من الأدب القديم قد أفلتت وامتنعت عليهم، فليس يقرؤها منهم إلا أولئك الذين أتيحت لهم ثقافة واسعة عميقة فى الأدب العربى القديم، وإنك لتلتمس الذين يقرأون ما كتب القدماء فى السيرة وحديث العرب قبل الإسلام فلا تكاد تظفر بهم».
كان طه حسين يقصد القراء الجدد الذين يحتاجون لإطلالة جديدة على سيرة النبى،صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء الذين يقرأون الكتب القديمة لا وجود لهم، ولذلك يكمل رؤيته: «إنما يقرأ الناس ما يكتب لهم المعاصرون فى الأدب الحديث بلغتهم أو بلغة أجنبية من هذه اللغات المنتشرة فى الشرق، يجدون فى قراءة هذا الأدب من اليسر والسهولة ومن اللذة والمتاع، ما يغريهم به ويرغبهم فيه».
بجرأته التى لا تخفى على أحد، يقتحم طه حسين القلعة، يقول رأيه فيما يسمى الأدب القديم الذى حمل لنا على جناحيه سيرة النبى، صلى الله عليه وسلم، يقول: «أما الأدب القديم فقراءته عسيرة، وفهمه أعسر، وتذوقه أشد عسرًا، وأين هذا القارئ الذى يطمئن إلى قراءة الأسانيد المطولة، والأخبار التى يلتوى بها الاستطراد، وتجور بها لغتها القديمة الغريبة عن سبل الفهم السهل والذوق الهين الذى لا يكلف مشقة ولا عناء».
طه لا يزال يواصل نقده: «الأدب القديم لم ينشأ ليبقى كما هو ثابتًا مستقرًا، لا يتغير ولا يتبدل، ولا يلتمس الناس لذته إلا فى نصوصه يقرأونها ويعيدون قراءتها، ويستظهرونها ويمعنون فى استظهارها، إنما الأدب الخصب حقًا هو الذى يلذك حين تقرؤه، لأنه يقدم إليك ما يرضى عقلك وشعورك، ولأنه يوحى إليك ما ليس فيه، ويلهمك ما لم تشتمل عليه النصوص، ويعيرك من خصبه خصبًا، ومن ثروته ثروة، ومن قوته قوة، وينطقك كما أنطق القدماء، ولا يستقر فى قلبك حتى يتصور فى صورة قلبك، أو يصور قلبك فى صورته، وإذا أنت تعيده على الناس فتلقيه إليهم فى شكل جديد يلائم حياتهم التى يحيونها، وعواطفهم التى تثور فى قلوبهم، وخواطرهم التى تضطرب فى عقولهم.
قرر طه حسين أن يصل إلى قراء جدد لا صبر لهم على كتب التراث إذن، ويظل السؤال هو: ما الذى كان يريده طه بكتابه ومنه؟
يمكننا أن نصل إلى مراده من كلامه وفى نقاط محددة.
أولًا: أراد طه حسين أن يلقى بكتابه «على هامش السيرة» فى نفوس الشباب حب الحياة العربية الأولى، ويلفتهم إلى أن فى سذاجتها ويسرها جمالًا ليس أقل روعة ولا نفاذًا إلى القلوب من هذا الجمال الذى يجدونه فى الحياة الحديثة المعقدة.
ثانيًا: أراد كذلك أن يدفع الشباب إلى استغلال الحياة العربية الأولى، واتخاذها موضوعًا قيمًا خصبًا لا للإنتاج العلمى فى التاريخ والأدب الوصفى وحدهما، بل كذلك للإنتاج فى الأدب الإنشائى الخاص.
ثالثًا: أراد أيضًا أن يلقى فى نفوس الشباب أن القديم لا ينبغى أن يُهجر لأنه قديم، وأن الجديد لا ينبغى أن يُطلب لأنه جديد، وإنما يُهجر القديم إذا برئ من النفع وخلا من الفائدة، فإن كان نافعًا مفيدًا فليس الناس أقل حاجة إليه منهم إلى الجديد.
لاحظ أن الذى يقول هذا الكلام هو طه حسين المتهم الأبدى من قبل الإسلاميين بأنه كان يعادى التراث بشكل مطلق، وعليك أن تحتفظ بدهشتك قليلًا عندما تسمعه بعد ذلك يقول ما هو أكثر.
يقول طه حسين: أعلم أن قومًا سيضيقون بهذا الكتاب، لأنهم محدثون يكبرون العقل، ولا يثقون إلا به، ولا يطمئنون إلا إليه، وهم لذلك يضيقون بكثير من الأخبار والأحاديث التى لا يسيغها العقل ولا يرضاها، وهم يشكون ويلحون فى الشكوى حين يرون كلف الشعب بهذه الأخبار، وجده فى طلبها، وحرصه على قراءتها والاستماع لها، وهم يجاهدون فى صرف الشعب عن هذه الأخبار والأحاديث، واستنقاذه من سلطانها الخطر المفسد للعقول.
أما لماذا سيضيق هؤلاء؟
فيجيب طه بأنهم سيقرأون فى كتابه طائفة من هذه الأخبار والأحاديث التى نصبوا أنفسهم لحربها ومحوها من نفوس الناس.
لا بد أن تنتبه جيدًا إلى أن طه حسين هو الذى يتحدث، ولا تتعجب أيضًا عندما تسمعه يقول لمن سيعترضون على كتابه لأن به أخبارًا تخاصم العقل: أحب أن يعلم هؤلاء أن العقل ليس كل شىء، وأن للناس ملكات أخرى ليس أقل حاجة إلى الغذاء والرضا من العقل، وأن هذه الأخبار والأحاديث إذا لم يطمئن إليها العقل، ولم يرضها المنطق، ولم تستقم لها أساليب التفكير العلمى، فإن فى قلوب الناس وشعورهم وعواطفهم وخيالهم وميلهم إلى السذاجة واستراحتهم إليها من جهد الحياة وعنائها- ما يحبب إليهم هذه الأخبار ويرغبهم فيها ويدفعهم إلى أن يلتمسوا عندها الترفيه على النفس حين تشق عليهم الحياة.
يأخذنا طه حسين إلى مساحة أبعد، عندما يواصل عرض وجهة نظره، فيقول: فرق عظيم بين من يتحدث بهذه الأخبار إلى العقل على أنها حقائق يقرها العلم وتستقيم لها مناهج البحث، ومن يقدمها إلى القلب والشعور على أنها مثيرة لعواطف الخير، صارفة عن بواعث الشر، معينة على إنفاق الوقت واحتمال أثقال الحياة وتكاليف العيش.
هذه مساحة مجهولة تمامًا فى خريطة طه حسين الفكرية، ولا أريد الذهاب إلى ما هو أبعد، وأقول إن هناك من يتعمد تغييبها، رغم أنها لا تعيبه ولا تنتقص من منهجه الفكرى ومنجزه الأدبى، فهو يقدس العقل، لكن هذا لا يمنعه من أن يتجاوب مع احتياجات الناس النفسية والروحية، وهى احتياجات فى الغالب لا يستطيع العقل وحده تلبيتها.
ولأن طه حسين فصل ما يريده، فكان لا بد أن يشرح منهجه فى الكتابة عن النبى، صلى الله عليه وسلم، فيقول عن ذلك: أحب أن يعلم الناس أيضًا أنى وسعت على نفسى فى القصص ومنحتها من الحرية فى رواية الأخبار واختراع الحديث ما لم أجد به بأسًا، إلا حين تتصل الأحاديث والأخبار بشخص النبى، أو بنحو من أنحاء الدين، فإنى لم أبح لنفسى فى ذلك حرية ولا سعة، وإنما التزمت ما التزمه المتقدمون من أصحاب السيرة والحديث ورجال الرواية وعلماء الدين.
منح طه حسين لنفسه مساحة من الخيال يعيد من خلالها رواية سيرة النبى، صلى الله عليه وسلم، لكنه طمأن من سيقرأون له، بأنه لن يتعب الذين يريدون أن يردوا فصول هذا الكتاب القديم فى جوهره وأصله، الجديد فى صورته وشكله، إلى مصادره القديمة التى أخذ منها، فهذه المصادر قليلة جدًا، لا تكاد تتجاوز سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد وتاريخ الطبرى، وليس فى هذا الكتاب فصل أو نبأ أو حديث إلا وهو يدور حول خبر من الأخبار ورد فى كتاب من هذه الكتب، فإذا اتصل الخبر بشخص النبى فإنى أرده إلى مصدره ليستطيع من شاء أن يرجع إليه، لا أحتمل فى ذلك تبعة خاصة، لأنى لا أذهب فيه مذهبًا خاصًا، إلا أن يكون تبسطًا فى الشرح والتفسير واستنباط العبرة والوصول إلى قلوب الناس.
ختم طه حسين تقديمه كتابه بقوله: فلييسر الله سبيل هذا الكتاب إلى النفوس، وليحسن الله موقعه فى القلوب.
الحالة كاشفة لنفسها تمامًا، طه حسين يخالف الصورة التى رسموها له، لا فرق بين هؤلاء الذين أحبوه وهؤلاء الذين كرهوه، يقدم لنا نفسه كاتبًا متسقًا مع ما يرى أنه صحيح، لا يشترى رضا أحد، ولذلك ورغم أهمية هذا الكتاب فإن «على هامش السيرة» يظل واقفًا فى مساحة سوء الظن من الجميع.
لا يرحب به العلمانيون الذين يعلون من قيمة العقل، ويتعاملون مع طه حسين على أنه رائدهم، لأنه خذلهم بسرده الروايات والحكايات التى تخاصم العقل ولا تتفق معه.
ولا يرحب به رجال الدين التقليديون لأنهم يرون فيه مخالفة لمنهجهم، فطه حسين لا يرفض كثيرًا من الروايات التراثية لكنه يوردها على سبيل العبرة والعظة، وليس على أنها حقيقة تاريخية ثابتة.
وهنا وللتاريخ لا بد أن أعود بكم قليلًا إلى العام ١٩٥٥.
هو تحديدًا العام الذى ذهب فيه إلى الأراضى المقدسة ليؤدى شعائر الحج، وقتها تحفظت البعثة الأزهرية التى كانت تعمل هناك، فقرروا عدم استقباله أو الترحيب به بسبب كتابه «فى الشعر الجاهلى» الذى نشره فى العام ١٩٢٦، ولم يشفع له عندهم أنه ألف كتابه «على هامش السيرة» فى العام ١٩٣٣، إلا أن شيخًا معممًا واحدًا كسر القاعدة واستقبل طه حسين استقبالًا حسنًا.
هذا الشيخ كان محمد متولى الشعراوى الذى كان واحدًا من البعثة الأزهرية.
لم يكتف الشيخ الشعراوى بلقاء الدكتور طه والترحيب به، بل كتب قصيدة أثنى فيها على كتاب «على هامش السيرة»، قال فيها:
هامش السيرة الحبيبة فيه تغنى سماحة الأنبياء
فهو فى الأذن معبدى خفيف وثقيل الميزان يوم الجزاء
وهو عن نعمة البيان زكاة ولهذا أدركت سر النماء
لن أسألك عن الخاطر الذى يراودك الآن بعد أن عرفت جانبًا من سيرة طه حسين مع النبى محمد.
اسمح لى فقط أن أعبر عما جال فى خاطرى، لقد رأيت فى طه حسين عاشقًا غارقًا حتى أذنيه فى حب النبى، صلى الله عليه وسلم... لكنه كان ذلك العاشق المتخفى الذى كتم حبه فى قلبه... أو هو العاشق الذى منعه محبوه وكارهوه من أن يصرح بما يحمله قلبه... وحتى عندما فعل ذلك استكثروه عليه، ولم يكن أمامهم إلا أن يتجاهلوه... فتجاهلوه بالفعل.