رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود خليل يكتب: الجن يظهر فى رمضان

محمود خليل
محمود خليل

شتاء قاس كانت تعيشه مصر عام ١٧٦٩، لكن الصوم كان هينًا، فاليوم قصير وعدد ساعات الصيام محدودة، وبرودة الطقس لا تشعر الصائم بالعطش، لكنها تفجر حنينه إلى الطعام، اليوم هو ١٨ يناير من العام ١٧٦٩ الموافق ١٠ رمضان عام ١١٨٢ هجرية. الطقس فى مصر بارد، لكن الأحداث ساخنة، فحركة شيخ العرب همام للاستقلال بالصعيد عن الوالى العثمانى المتربع على العرش فى القاهرة على أشدها، استعان الوالى بالمماليك للقضاء على تمرده، سار إليه محمد بك أبوالدهب فى جمع من المماليك، لكنه لم يستطع النيل منه، وانتهى الأمر بالتصالح بين الطرفين على أن يكون من حق «همام» حكم دولة الصعيد إلى حدود «برديس» ولا يتخطاها إلى ما عداها. فى القاهرة كان ثمة أمير طموح يترقب الأحداث من حوله ويديرها من وراء حجاب أحيانًا وبصورة صريحة مباشرة فى أحيان أخرى، إنه المملوك الشهير على بك الكبير الذى كان يلقب بـ«جن على» من فرط مكره ودهائه، كان «الجن» أو«الكبير» يرقب تمرد شيخ العرب همام على سلطة والى العثمانيين بالقاهرة، ويُغذيه بصورة غير مباشرة، فقد رأى فى حركته أداة جيدة لإضعاف سلطة الوالى العثمانى، وفى الوقت نفسه كان يرقب المماليك المنافسين من حوله، ويعلم أنهم يقاسمونه الطمع فى القفز على كرسى الولاية فى القاهرة، وكان أشدهم عليه المملوك صالح بك، فخطط لاغتياله من خلال مجموعة من أتباعه ونجح فى ذلك.
لم يكن الوالى «محمد باشا» الجالس على كرسى الحكم فى القلعة جاهلًا بخطط على بك الكبير، كان يعلم أنه طامح إلى الحكم وينتظر الفرصة المناسبة للوثوب عليه، أراد الوالى أن يسبق «الكبير» بخطوة، فاستغل هدوء الأوضاع على جبهة شيخ العرب همام بالصعيد، وتوتر العلاقة بين فرق المماليك بعد قيام «خشداشية» على بك باغتيال صالح بك، وحاول القيام بحركة سريعة يقضى بها على «الكبير» الطامح إلى الجلوس على كرسيه، كانت مصر حينذاك- وربما لم تزل- لا تنام على سر، وكان لـ«الكبير» رجاله داخل القلعة، علم بعضهم أن الوالى يخطط لحركة ضد على بك، فتحركوا سريعًا إليه وباعوا له سر الوالى وأخبروه بخططه للقضاء عليه، تحرك على بك سريعًا وجمع مماليكه وتحرك إلى ميدان الرميلة والمحجر وحاصروا القلعة من كل الاتجاهات، أمر «الكبير» الوالى بالنزول من القلعة فاستجاب الأخير صاغرًا فتم القبض عليه وتحديد إقامته فى منزل أحمد بك كشك، استطاع على بك أن يعيد كرسى حكم مصر من جديد إلى المماليك بعد ما يزيد على ٢٥٠ سنة من دخول العثمانيين إلى مصر وإنهاء الحكم المملوكى «الجركسى» بها، واعتلى قائممقامية مصر.
تلاحقت الأحداث سريعًا خلال شهرى رجب وشعبان، وعندما هل هلال رمضان كان نجم على بك الكبير يلمع فى سماء مصر، بعد أن تمكن من الاستفراد بحكمها، ساس «الكبير» أمور مصر بطريقة مختلفة، فقد كان شديد التعطش للسلطة والمال، واستحدث كما يقول «الجبرتى» فى «عجائب الآثار» مبدأ المصادرة لأول مرة فى تاريخ مصر «وكان مبدؤه يوم ١٠ رمضان ١١٨٢ هـ». فوضع عينه على كبار التجار والأعيان فى مصر وبدأ يخطط لسلب ونهب أموالهم، اختار فى البداية كبيرهم المعلم إسحق اليهودى معلم الديوان وأخذ منه ٤٠ ألف «محبوب» «المحبوب هو الجنيه الذهب العثمانلى» وضربه حتى مات، كان «الكبير» يريد جمع أكبر قدر من المال لرشوة الباب العالى حتى يمكنه العثمانيون من وضع قدمه فى الشام ليجمع بين حكم الشام ومصر، وكان له ما أراد بسبب عفريت اسمه «محمد بك أبوالدهب» كانت حكايته حكاية مع «الجن على».