رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نعينع: النبى بشرنى فى المنام بأننى قارئ القرن الخامس عشر

أحمد نعينع
أحمد نعينع

محاولة إقناع الدكتور أحمد نعينع بإجراء حوار صحفى تجربة تستلزم من المحاور التسلح بكل آيات الإقناع التى يمتلكها أو يعرفها، فـ«القارئ الطبيب»، الذى بلغت شهرته الآفاق، حسم أمره منذ زمن برفض الحديث للصحافة، ولم يحدث ذلك إلا على استحياء وباستثناءات قليلة جدًا، والسبب الذى يقوله هو إنه دائمًا ما يجد نفسه معنونًا بما ليس به علم من تصريحات أو أقاويل. بعد مرحلة من السجال المتبادل بينى وبينه، استجاب «نعينع» لرغبتى، لكنه وضع شرطًا بأن يكون الكلام حول تجربته الإنسانية ورحلته النورانية القرآنية، فهو لا يرى شيئًا فى حياته أهم من الذكر الحكيم. فماذا قال «القارئ الطبيب» عن هذه التجربة الحافلة؟ وما أهم محطات رحلته الطويلة داخل دنيا الله؟.. أسئلة تجيب عنها السطور التالية.


الإذاعة رفضت قراءتى فى حفل «البحرية».. وشيخ الأزهر قال لهم: «سيبوه على مسئوليتى»
من هنا نبدأ.. مدينة مطوبس التابعة لكفرالشيخ، وتحديدًا فى ١٥ مارس ١٩٥٤.
نحن الآن فى حضرة أسرة التاجر أحمد نعينع، رجل ميسور الحال وحسن السيرة والمقام، كل ما يشغل باله نهارًا ويستحوذ على منامه ليلًا يتمثل فى توفير حياة كريمة لأبنائه، خاصة بعد ما رزقه الله فى هذا اليوم بابنه الذى سماه «أحمد».
مضت الأيام بأحوالها المتباينة، وبلغ الطفل «أحمد» من العمر ٤ سنوات، وفى تلك السن الصغيرة استطاع أن يجذب الأنظار إليه بشدة، بعدما برع فى قراءة القرآن الكريم بصوت عذب متفرد، وحرصًا على إصقال موهبته بالدراسة التحق بـ«كُتاب» القرية، لتكتمل رحلته مع الذكر الحكيم بحفظه وتجويده لمّا بلغ الثامنة من عمره.
ومن بعد أذان صلاة العصر حتى ما قبل الإقامة، خصص أهالى القرية فقرة ثابتة لهذا القارئ الناشئ، يستمعون فيها لبعض آيات الكتاب منه، لتمضى الأيام على الفتى وبركة القرآن الكريم تظلل خطواته فى كل مراحل حياته، وتتجسد بحصد المركز الأول على مستوى المحافظة فى المرحلة الابتدائية، قبل أن يتوج مسيرته بعدها بسنوات بالحصول على المركز الأول فى الثانوية، ليقرر الالتحاق بكلية الطب جامعة الإسكندرية.
أسرَت «عروس البحر المتوسط» بسحرها وجمالها عين الوافد الجديد الطبيب «أحمد»، وبعد أن استقر هناك، عاود استكمال سيرته مع «أحسن الحديث»، لكن الانطلاقة تلك المرة جاءت من محطة سيدة تُدعى الشيخة «أم السعد»، كان صيتها كبيرًا وشهرتها تبلغ الآفاق بخصوص معرفتها الواسعة بالعلم القرآنى، وبالفعل على يديها أتم «نعينع» حفظ جميع القراءات الخاصة بالقرآن الكريم.
داخل أسوار الجامعة بدأت نجومية «القارئ الطبيب» فى البزوغ، فقد اشتهر ببراعته فى تلاوة آيات الفرقان، حتى حانت اللحظة التى اخترق فيها صوته آذان الدكتور السيد درويش، عميد كلية الطب فى حينها ووزير الصحة فيما بعد، فبمجرد سماعه هذا الطالب سلبت قراءاته قلبه قبل أن تصل إلى أذنيه، ليقرر بعدها استدعاءه إلى مكتبه مُثنيًا ومشجعًا ومحفزًا، لتبدأ مرحلة جديدة فى حياة «نعينع» يصفها بأنها مرحلة الميلاد الثانى. دوى صوت القارئ الصاعد فى كل أرجاء الإسكندرية، ليجد نفسه فى ليالٍ كثيرة قارئًا فى مناسبات عديدة بصحبة عمالقة دولة التلاوة، أمثال الشيخ محمود خليل الحصرى وغيره، وخلال تلك الآونة بدأ يتردد على القاهرة فى أوقات متباينة للتلاوة.
فى مسجد سيدى على السماك بالإسكندرية كانت لـ«نعينع» أيام، فهناك ظل يقرأ لسنوات صنع خلالها جماهيرية كبيرة، وبين جدرانه توثقت الصلة بينه وشيخ الأزهر الراحل الدكتور عبدالحليم محمود، هذا الرجل الذى كان صاحب أيادٍ بيضاء وفضل كبير عليه، تتجسد فيما حدث معه عقب التحاقه كضابط احتياط فى سلاح البحرية.
فقد حدث أن جاءت الإذاعة لنقل شعائر أحد الاحتفالات من هناك، وعندما هَمّ القارئ الطبيب بالتلاوة حدثت مفاجأة تتمثل فى اعتراض مذيع الحفل بشدة على «نعينع»، لكونه قارئًا غير معتمد بالإذاعة، وبالتالى لا تحق له التلاوة، وقتها تدخل الإمام «عبدالحليم» قائلًا وحاسمًا: «دعه يقرأ وأنا المسئول.. فأنا أعرفه جيدًا وقد سمعته يتلو من قبل». حينها شعر «القارئ الطبيب» بأنه أمام تحدٍ من نوع خاص، فقرأ كما لم يقرأ من قبل بطريقة بهرت الحضور أجمعين، لدرجة أنه حين فرغ من التلاوة أتى إليه المستمعون مهنئين ومشيدين، وكانت تلك أولى نفحات «الإمام» تجاه «نعينع».
المرة الثانية حدثت حين قص «نعينع» رؤيا شاهدها فى منامه على الشيخ «محمود»، رأى خلالها الرسول الكريم بصحبة عدد من أصحابه فى مسجد، وكانت هناك مسافة بينه والنبى المصطفى، فقام يحصى عدد الصفوف الفاصلة فوجدها ١٥ صفًا، وبعدها وقف ناظرًا ومتأملًا النبى وصحابته.
لم ينته الطبيب من حكايته إلا ووجد الدكتور عبدالحليم محمود يصيح قائلًا: «هذا حق... هذا فخر... أنت إذن قارئ القرن الخامس عشر الهجرى»، لتبدأ بعدها حياة «نعينع» فى التغيير بصورة كبيرة، فلم يمضِ عليه وقت طويل إلا والتحق بالإذاعة المصرية، ليدوى صوته فى كل أرجاء المحروسة وما حولها من بلدان وأمم.
يُدين «نعينع» كثيرًا بالفضل للفترة التى قضاها كضابط فى البحرية بالإسكندرية، فقد أحدثت له نقلة كبيرة عندما قرأ للمرة الأولى أمام الرئيس السادات فى واحدة من لحظات حياته الكبرى، وبعد أن فرغ وجد الرئيس يربت على كتفيه قائلًا: «برافو.. برافو».
بعدها توالت اللقاءات التى قرأ فيها أمام الرئيس، إلى أن جاء يوم الاحتفاء بـ«يوم الطبيب». فى تلك المناسبة قرأ القارئ بعضًا من آيات سورة «النمل»، أسكرت من حلاوتها مزاج ونفس الرئيس الراحل لدرجة دفعته للتحدث قائلًا: «وكأننى لأول مرة أسمع فيها تلك الآيات.. لقد جعلتنى أشعر بمذاق مختلف للقرآن الكريم.. خلاص أنت معانا»، وبالفعل تم نقله للعمل فى رئاسة الجمهورية طبيبًا وليس قارئًا.
من اللحظات التى لا تنساها ذاكرة «نعينع»، الأوقات الخاصة التى كان يصطحبه فيها «السادات»، ومعه الكاتب الراحل أنيس منصور، والمهندس حسب الله الكفراوى للتعبد داخل «وادى الراحة»، وهى اللحظات التى كان يرى فيها الوجه الإنسانى الآخر للزعيم الراحل.


نومى فى سرير الشيخ الحصرى كان نبوءة خلافتى له فى مسجد الحسين



الطبيب أحمد نعينع من القُراء القلائل الذين تحقق لشخصه ما يشبه الإجماع من السابقين واللاحقين بأنه خير امتداد لمدرسة التلاوة المصرية العظيمة، بعد أن نجح فى أن يؤسس لنفسه مدرسة خاصة وخالصة.. فماذا عن علاقته بعمالقة هذا الفن.. وكيف تأثر بهم؟
يقول «نعينع»: «الشيخ مصطفى إسماعيل هو أكثر القراء الذين تأثرت بهم، فقد كنت عاشقًا لصوته، ومحظوظًا بالتعرف عليه عندما قدمنى إليه الأشخاص عقب تلاوته فى إحدى المناسبات فتصادقنا، وخلال السنوات الأخيرة فى حياته كان قد اشترى بيتًا خاصًا له فى الإسكندرية، وقد كان محبًا لتلك المدينة بطريقة لا يمكن وصفها، وغالبًا ما كان يقضى هناك معظم أوقات السنة».
وأضاف: «فى تلك الفترة رافقته كما القرين، أقلده فى قراءته وأرقبه بنظرى متابعًا حركاته وسكناته، كنت أتعلم منه دون أن أطلب منه ذلك، لدرجة أنه ذات مرة تحدث لبعض المقربين قائلًا: «بيقلدنى فى كل حاجة»، وظلت علاقتنا قائمة ومتقاربة جدًا حتى اللحظات الأخيرة من حياته.
وعن الشيخ الراحل محمود خليل الحصرى، قال «نعينع»: «التقيته خلال إحدى المرات التى قرأ فيها بالإسكندرية، وقتها كنت القارئ الثانى معه، لكننا لم نتحدث. بعد تلك المرة بفترة وبينما هو يقرأ فى مسجد الحسين، وبعد أن انتهى من قراءته، علم بوجود قارئ آخر قادم من الإسكندرية، فقرر الجلوس لسماعه ولم يغادر».
وأضاف: «بعد أن انتهيت من القراءة أتانى مشيدًا وتعرف على شخصى، وسألنى عن محل سكنى فأخبرته بأننى حال حضورى فى القاهرة أنزل للإقامة فى أحد الفنادق، فأصر على توصيلى إلى حيث أُقيم، وعندما وصلنا هناك فوجئت به فى تواضع شديد يحمل شنطتى ويضعها فى سيارته مُصرًا على أن أبيت معه فى منزله».
حينها كان من المقرر أن يعود «نعينع» فجرًا إلى مسجد الحسين مرة أخرى للقراءة، وبالتالى الأفضل له أن يبقى قريبًا منه، وعندما أفصح لـ«الحصرى» عن هذا الموضوع، وجده يقول: «على ابنى هيبتهل معاك الفجر هناك.. تعال نام عندى واصحوا روحوا سوا».
وتابع: «فى بيته دخلت إلى إحدى الغرف وحين بدأت التحرر من ملابسى استعدادًا للنوم، فوجئت بأنها حجرته، فقد أنامنى فى سريره، وتلك واحدة من الآيات الكبرى الربانية فى حياتى، وأحد التجليات الإيمانية التى حدثت لى».
سألته: لماذا؟ فأجاب:
هناك قاعدة نؤمن بها ونرددها دومًا نحن المقرئين ألا وهى أن مسجد الحسين دائمًا ما يختار قارئه، وقتها كان الشيخ الحصرى هو قارئ السورة هناك، وبعد رحيله بسنوات جاء الدور على شخصى لأكمل مسيرة كل العمالقة الذين مروا من هنا، ويبدو أن نومى فى مكانه كان نبوءة مبكرة بما سيحدث لاحقًا.


أرى الله فى كل تفاصيل حياتى وتوفيقه تجلى أثناء أدائى فريضة الحج
بعد أن أفاض «القارئ الطبيب» فى الحديث عن رحلته مع القرآن الكريم، حيث الحياة الرحبة الواسعة طلبت منه أن ننتقل بالحديث إلى ما هو أعم وأكبر، وأعنى الحياة فى دنيا الله.
سألته قائلًا: متى وأين رأيت الله؟.. فأجاب: «منذ طفولتى وأنا أراه فى كل تفصيلة منتشرة فى الحياة. حين أرى الزهور تتفتح والثمار تكبر والمريض يشفى والصغير يكبر والسماء تمطر، فى كل لمحة ولقطة تحدث فى ليلى ونهارى أراه فيها».
وأضاف: «أشاهد الله فى لحظات التوفيق التى يهبنى إياها، حين يحقق لى حلمًا أتمناه، فمثلًا فى عام ١٩٩٠ كنت أؤدى مناسك العمرة فى الحرم المكى، وبينما أقيم صلواتى فوجئت بشخص هناك يحضر إلىّ ويسألنى قائلًا: نفسك تقرأ فى الحرم... أجبته طبعًا ومن لا يتمنى القراءة هنا، ثم تركنى وانصرف».
وتابع: «بعدها بنصف الساعة حضر أمامى مرة أخرى، ومنحنى الإذن بالتلاوة، فبدأت فى قراءة آيات من سورة الحج، وقتها كنت أشعر بأننى أقرأ لأول مرة، أتلوها وكأننى أشاهد ما أقوله، حينها بدت روحى هائمة فى دنيا غير الدنيا التى نحياها ونعرفها».
كما أنه عرف الله أيضًا فى ذلك الفجر الرمضانى الذى «كنت أقرأ فيه فى مسجد السيدة زينب للإذاعة، وصادفت أن سمعنى الملك الحسن ملك المغرب، ليحدث ما لم أكن أتوقعه حيث أتانى وزير الأوقاف المغربى، وكان فى زيارة للقاهرة، وطلب استعدادى للسفر لمقابلة الملك والقراءة أمامه».
لكن «نعينع» شكره وقدم له اعتذارًا عن عدم قبول الدعوة، لارتباطه بالسفر إلى لبنان فى اليوم التالى، لإحياء إحدى المناسبات الدينية التى اعتاد المشاركة فيها منذ سنوات، وفى خلال ٢٤ ساعة غاب وزير الأوقاف المغربى ثم حضر إلى «القارئ الطبيب» بتأشيرة سفر: «القاهرة.. بيروت.. باريس.. كازابلانكا»، ليذهب بالفعل إلى لبنان، ومن بعدها المغرب حيث وجد نفسه جالسًا بين يدى الملك الحسن.
وأضاف «نعينع»: «فى كل بلاد العالم التى زرتها شرقًا وغربًا، ولم أدع دولة فى الدنيا إلا وقد نزلت فيها قارئًا للقرآن، كنت أشعر بأن عناية الله ترعانى، فذاكرتى لا تنسى يوم أن كنت فى بنجلاديش وبعد أن فرغت من التلاوة هجم المستمعون علىّ وكادوا يلتهموننى من فرط الإعجاب والانبهار، حينها رأيت الله عندما وفقنى لأنقل رسالة القرآن فى كل ربوع الدنيا من خلال صوتى».
وعن طقوسه فى رمضان، قال: «طيلة الأعوام الماضية اعتدت قضاء الشهر الكريم خارج مصر، فعادة أزور المغرب للقراءة، أو لبنان، أو غيرهما من البلدان، لكننى ولأول مرة منذ زمن أبقى مقيمًا هنا فى القاهرة بعد أن توقفت حركة السفر والطيران بفعل الظروف الراهنة الناجمة عن فيروس كورونا».
واختتم بالإشارة إلى حلم لديه وهو تأسيس «مدرسة قرآنية» تسهم فى «تجديد شباب دولة التلاوة فى مصر»: «قطعت خطوات فى تحقيق تلك الأمنية، وينقصنا فقط وجود برنامج على إحدى القنوات لتنفيذها».