رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل يتساوى التِبرُ مع التُراب؟


دولته من زجاج، ويقذف الآخرين بالحجارة.. ربما لعوارٍ في شخصيته، وربما للتعمية على فساد نفسه وإعوجاج إدارته لبلاده، وربما الإثنبن معاً.. ذلك باختصار هو رجب طيب أردوغان، رئيس حزب العدالة والتنمية، المتآمر مع جماعة الإخوان المسلمين وتنظيمها الدولي، وليس رئيس الدولة التركية.. وشتان بين الصفتين.
فهذا المُدعي البحث عن حقوق الإنسان وحماية الحريات في دول أخرى، تحولت تركيا في عهده إلى سجن كبير للصحفيين والإعلاميين، والكُتاب والنقاد والأكاديميين، إلى درجة وصف لجنة حماية الصحفيين لهذه الدولة، بأنها أكبر سجن للصحفيين في العالم، بعد الصين، كنتيجة لتعدى رئيسها كل الحدود في تكميم الأفواه والاعتقالات العشوائية، حتى بين القضاة ورجال التعليم، ومن يعارضون انتهاكاته لحقوق الإنسان بعامة ولحرية الرأي والتعبير على وجه الخصوص، إلى أن صار الوضع في بلاده يمثل كارثة حقيقية.. وقد أدى إغلاقه للكثير من وسائل الإعلام وإسكاته أصوات الصحفيين، إلى خلق مناخ لم يُمكّن أحداً من المنصفين من انتقاد ما يستوجب الانتقاد، لدرجة أن إحدى الصحفيات الأتراك اعترفت بقولها (أصبحنا نمارس الرقابة على أنفسنا بسبب هذه المخاوف.. كل ما أقوله أصبح يؤثر على حياتي وحياة عائلتي وأطفالي).. ناهيك عن تزايد أعداد الصحفيين العاطلين عن العمل، يوماً بعد آخر، حتى وصلت حالياً إلى ما يزيد على عشرة آلاف، بعد سحب رخصة ممارسة المهنة من كل منهم، وباتوا معتادين على التواجد في ممرات المحاكم، للدفاع عن أنفسهم، في قضايا وهمية رفعها ضدهم أعضاء حزب العدالة والتنمية الحاكم، بعضها يصل حد الاتهام بـ (الإرهاب)!.
ما حدث، أن أردوغان استغل ما أسماه إنقلاب 2016، في فرض إجراءات أمنية متشددة، أمر خلالها بسجن أربعين ألف شخص دون محاكمة، وأوقف ما يربو على 125 ألفاً آخرين عن العمل، في الجيش والقضاء والدوائر المدنية، وهو ما يراه المدافعون عن الحقوق والحلفاء الغربيين للولايات المتحدة، ذريعة أردوغانية للانقلاب على المعارضة، في الوقت التي يقول عنها، (إنها إجراءات ضرورية لحماية الديمقراطية)!، بينما يؤكد المفوض الأوروبي لحقوق الإنسان بأن محاولة الإنقلاب (لا تبرر الإجراءات التي تسيئ بصورة خطيرة إلى حرية الإعلام ودولة القانون)، فمن غير المنطقي أن تغلق سلطات أنقرة نحو 158 وسيلة إعلامية وصحيفة وقناة تليفزيونية وإذاعة ووكالة أنباء، وتزج بأكثر من 120 صحفياً في السجون.. ومع هذا، تضرب الحكومة التركية، بعرض الحائط، جميع التزاماتها الدولية، ووصل التضييق حد الديكتاتورية، لأن أردوغان يرغب في السيطرة على الإعلام والصحافة، لتوجيه الرأي العام في بلاده، خوفاً من زيادة مساحة المعارضة ضد نظامه وأسلوبه في إدارة الحكم، وما يده الغليظة التي يضغط بها على الصحافة إلا رد فعل لخوفه من توجيه إنتقادات ضده، في الوقت الذي يكشف فيه بعض الصحفيين زيفه وغروره أمام شعبه، وفشله خارجياً في أداء دور إقليمي، نتيجة رفض العديد من الدول تدخله في شئونها.. وكان مصير هؤلاء أيضاً السجن.
المثير للسخرية في هذا الأمر، أنه بالرغم من رفض غالبية الدول الغربية دخول تركيا عضواً في الاتحاد الأوروبي، بسبب تلك الانتهاكات، إلا أن منظمة (هيومان رايتس ووتش) أصابها الحَوّل، بغضِها الطرف عن أعداد حالات الاعتقال العشوائي والسقطات التي يقوم بها أردوغان، ولم نسمع منها كلمة واحدة عن تقارير جرائم حزب العدالة والتنمية، بالرغم من اختفاء مندوبهم ــ أي المنظمة ــ قبل سنوات، في ظروف غامضة، يقف وراءها النظام التركي!.
فجأة.. وجدنا أردوغان يدفع أعضاء حزبه لتمرير قانون مثير للجدل عبر البرلمان، يتعلق بالإفراج المُبكر عن أكثر من تسعين ألف سجين، مستثنياً منهم خصومه!، وهي شرائح من المجتمع، ليست ذات ميول إجرامية وليس في تاريخها سجل جنائي، ومنهم عشرات الألوف الذين تم زجهم في السجون بعد محاكمات تعسفية سريعة، بدعوى مشاركتهم في المحاولة الإنقلابية المزعومة، حيث بقيت نزعة الإنتقام متأصلة في تعامل حكومة العدالة والتنمية مع شرائح واسعة من المجتمع التركي، وقد أثار ذلك ما أسمته صحيفة الجارديان البريطانية بـ (غضب شعبي متصاعد بسبب الإجراء الحكومي بالإفراج عن واحد من كل ثلاثة سجناء يقبعون في السجون).. وبرر أردوغان قانونه بأنه في إطار تدابير الحد من إنتشار (كورونا)، و(مراعاة لحساسية الشعب التركي وضميره)!.. وأطلت علينا جماعة إخوان الشياطين في مصر برأسها، وبدافع من سيدها التركي، وعبر أبواقها في أنقرة ولجانها الإليكترونية، وراحت تدس السم في العسل، بحديث غير منطقي، يُطالب بالإفراج عن قياداتها وعناصرها الإرهابية، تلك التي تورطت في أعمال عنف وتخريب.. والمبرر، هو الوقاية من انتشار (كورونا)!.
الوجهان لا يتشابهان.. فسجون مصر تخضع لإجراءات طبية قوية، ويوجد بكل منها مستشفى ضخم، مُجهز بأفضل الأجهزة والتقنيات الحديثة والمتطورة، فضلاً عن القوافل الطبية المستمرة لفحض السجناء، إلى جانب عمليات التطهير والتعقيم اليومية لكافة السجون، وخضوع النزلاء والعاملين بهذه الأماكن للكشف الدوري، ولم يثبت اكتشاف حالة واحدة بين كل النزلاء.. فماذا عن تركيا؟.
حتى كتابة هذا المقال، تم اكتشاف إصابة أكثر من عشرين سجيناً تركياً بالفيروس، ووفاة بعضهم، وإصابة أكثر من ثمانين فرداً من العاملين بالسجون بالمرض، ضمن إخفاق نظام أردوغان الشديد في مواجهة (كورونا)، مما أدى إلى هجوم عنيف عليه داخل البلاد وخارجها، في ظل تواضع نصيب الفرد من النفقات الطبية، لتحتل أنقرة المرتبة الأخيرة في هذه القائمة.. وقد أكدت (الجارديان) أن تركيا، هي أسرع عدد متزايد من الحالات المؤكدة في العالم، ومع ذلك يُصر أردوغان على أن العمل العادي يجب أن يستمر، رافضاً دعوات نقابات الأطباء والسياسيين، بوقف نزول المواطنين إلى العمل والبقاء في المنزل، لأن (عجلة الاقتصاد يجب أن تظل دائرة)!.. فهل لذلك وجه شبه مع مصر، الذي أكد رئيسها أن صحة المواطن هي الأهم، بغض النظر عن تكلفة ذلك مالياً؟.
ما لم يُشِر إليه أعضاء إخوان الشر في مصر، أن المُفرج عنهم في تركيا، لصوص ومتربحون ومرتشون، الأمر الذي قد يؤدي إلى زيادة معدلات الجريمة.. وبتفعيل قانون أردوغان، عاد عدد من قادة المافيا المعروفين بإجرامهم إلى الواجهة، ومن بينهم آلاطين تشاكجي، أحد الذين استخدمتهم الاستخبارات التركية لتنفيذ (أعمال قذرة)، وهو الذي سبق وأن أُدين بتهم تنظيم وقيادة منظمة إجرامية، والتحريض على القتل، وحتى إهانة الرئيس نفسه.. لكن المصالح لابد أن تتصالح.. ولو أن الأمر يتعلق بأمور الإنسانية ومراعاة الظروف الصحية، لشمل قانون أردوغان خصومه السياسيين بالإفراج المُبكر أيضاً، بدلاً من الإبقاء عليهم قيد السجون، وتحويل عقوبتهم بالسجن إلى الحكم بإعدامهم بـ (كورونا).. وقد تجاهل إخوان مصر أيضاً قرار حكومة العدالة والتنمية ببناء مائة سجن جديد، لاستيعاب المزيد من الأتراك، وتخفيف اكتظاظ السجون الحالية بما يوازي 121% من سعتها الحقيقية من النزلاء، الذين يتجاوزون الآن 300 ألف سجين، بينهم آلاف الأكاديميين والمحامين والصحفيين والناشطين المدنيين، فضلاً عن العسكريين وصغار الموظفين الحكوميين وسجناء الرأي والمثقفين.
نحن بصدد رئيس دولة اختار أن يحمي سمعته على حساب شعبه، وتلك كارثة.. فمجلة (فورن بوليسي) توقعت أن يؤدي وباء (كورونا) إلى تدمير اقتصاد تركيا، مشيرة إلى أن النظام المالي لأنقرة كان ضعيفاً قبل الوباء، إلا أن مزيجاً من الدّين الخارجي وأزمة الصحة العامة، تُفاقم المشاكل أمام أردوغان، التي أصبحت بلاده في الموقف الأكثر ضعفاً بين الأسواق الناشئة الكبرى، بسبب سنوات طوال من سوء الإدارة السياسية والاقتصادية.. ولو أصر على مضاعفة أخطاء الماضي، فإنه سيجلب المزيد من الدمار الاقتصادي لتركيا، وستستمر التداعيات الاقتصادية والجيوسياسية لذلك لما بعد نهاية (كورونا).. ناهيك عن أن خمسة عشر ألفاً من المتخصصين في الرعاية الصحية، من بين الموقوفين عن العمل أو المُعتقلين، في أعقاب إنقلابه المزعوم عام 2016.. فأين التبر من التراب، بل أين مصر من تركيا.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.