رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ذكرياتى مع يوسف إدريس من إلهام فيلم «لا وقت للحب»


«ما زلت أتذكر تلك الليلة، كنت فى زيارة للصديقة نوال السعداوى وزوجها الدكتور شريف حتاتة، وهما فى غنى عن التعريف، فنوال كاتبة مفكرة ثائرة، قصاصة، كتلة ملتهبة من الشمس، انفصلت واستقرت على الأرض ولا تزال شمسية ملتهبة لم تبرد بعد ولا أعتقد أنها ستبرد، وشريف حتاتة قضى نصف حياته مسجونًا سياسيًا ودرس الطب بنبوغ والآن أصبح من الروائيين الجدد المعدودين فى مصر، عرفانى بابنهما عاطف حتاتة، وابنة نوال، منى حلمى.
من أول لحظة أحسست بأن هذه الفتاة التى لا تتكلم إلا نادرًا فيها شىء خفى ما، ولهذا لم أفاجأ أبدًا حين ذكرت لى نوال، أن منى تكتب قصصًا، بيت من الكتاب يا له من بيت قرأت لها قصة، وفى الحال أحسست بأنها كاتبة وستكون، بل أيضًا أحسست بنوع كتابتها، إنها نسّاجة «كانافاه» من الأحاسيس الدقيقة التى تصدر عن نفس ناعمة جدًا طبيعية تمامًا وغير طبيعية بالمرة، وإذا لم تكن هذه صفات أو بعض صفات الفنان، فماذا تكون؟».
هذه بعض من كلمات يوسف إدريس التى تضمنتها مقدمته لكتابى الأول، مجموعة قصصية صدرت عن دار مدبولى بعنوان «أجمل يوم اختلفنا فيه».
كيف أنساه؟ رجل أديب ثائر وسيم متجدد جنونه مبدع متوهج، وإبداعاته جنون، صديق قديم حميم لأسرتى، تحمس من تلقاء نفسه لكى يقدمنى هو شخصيًا لا أحد غيره فى أجمل ثوب، كاتبة وأديبة من نسج كلماته اليوسفية الإدريسية.
اتصلت به لأشكره، قال: «لا يمكن أن تكون ثمرة نوال وأحمد حلمى إلا أديبة مثلك».
يوسف إدريس الذى جعل من القصة القصيرة «أطول» متعة للعقل والعاطفة وكرامة الوعى وشموخ التمرد الذى لا يخاف شيئًا إلا لحظة فتور أو تردد أو تراجع أو مهادنة.
إنه يوسف إدريس، الذى حين تمسك أصابعه بالقلم تنطلق الكلمة كالرصاص تخترق الدروع التى نرتديها، وتسقط أقنعة الزيف والقبح والخواء، يكتب تنهار الأسوار الحديدية والقيم الأسمنتية المشيدة آلاف السنوات بين «الأسياد» و«الفرافير».
كانت الكلمة الصادمة المشحونة بالصدق والصراحة والبتر الموجع دون مخدر هى الهواء الذى يتنفسه يوسف إدريس وحينما لم يكتبها مات، حينما لم يكتبها كتبته النهاية «كلمة» لن يجف أبدًا حبرها.
هو كاتب بدرجة جرّاح، القلم فى يديه كالمشرط والجسد الملقى أمامه ممتلئ بالعلل والدمامل والجروح والحروق والبؤر الصديدية، دون تردد وبمهارة وبراعة وثقة تمتد أصابعه تطهر وتقطع وتنتزع وتعالج وتداوى.
ظهر كتابى، قال ناقد معروف: إنها قصص برجوازية تحمل أولويات مرفهة مستريحة، وتساءل: «أين القصص التى تتحدث عن أولويات الوطن؟ أين مشاكل النساء الفقيرات المقهورات الكادحات؟».
اتصلت بيوسف إدريس وقرأت له النقد بأكمله عبر الهاتف، صوته المفعم باعتصار الحياة فى رشفة واحدة يقول، وكأننى أسمعه الآن: «لا تسمعى كلام الأوصياء على الأدب والفن، هم أكثر قسوة مع كتابات النساء، اكتبى فقط وكونى نفسك، تذكرى كم الحجارة التى قذفوا بها نوال، تعلمى منها، كيف تدفع ضريبة الإبداع بكبرياء».
كانت أمى نوال السعداوى وأبى أحمد حلمى ويوسف إدريس ثلاثة أصدقاء منذ كلية الطب «قصر العينى» فى منتصف خمسينيات القرن الماضى يخرجون معًا فى المظاهرات ضد الاحتلال الإنجليزى، ذهب أبى للحرب مع الفدائيين فى القنال وعاد بعد فقدان صديقه الحميم أحمد المنيسى.
وكان أبى كاتبًا رفيعًا وخطيبًا مبدعًا، وكانت الكتابة والثورة ضد الاحتلال وعشق الحرية هى ما وطدت الصداقة بين أبى أحمد حلمى وأمى نوال السعداوى ويوسف إدريس.
أصدر أبى مجلة «شعلة التحرير» ورأس تحريرها، وكانت أولى الصفحات شهادة ميلاد كاتب عظيم، الطالب يوسف إدريس.
فى إحدى زياراته لنا حدثنى يوسف إدريس عن أبى وعيناه تشردان فى الذكريات البعيدة التى لن تعود، قال: «تعرفى يا منى أبوكى ده كان له قلم عظيم، رومانسى، ثائر، ممتع، أول قصة كتبها فى مجلة (شعلة التحرير) اسمها (كلب وغلام)، كانت حديث الكلية كنا نغار منه لقلمه الفريد ووسامته، ولأنه أيضًا استطاع أن يستأثر بقلب نوارة الكلية وطالبتها المثالية والأديبة الموهوبة نوال، لكن حرب الفدائيين وفساد السياسة وموت صديقه بين ذراعيه أحدثت جُرحًا عميقًا لم يلتئم.. أصل أبوكى ده مرهف وحسّاس جدًا، مستغربتش لما عرفت إنه بيعالج الفقرا فى عيادته مجانًا وعشان كده مات ولم يترك إلا سيرته النبيلة فى قلب نوال، وابنة موهوبة فى الكتابة والشعر والحرية».
«يوسف إدريس» المعجون بالجنون اللذيذ عاشق الكلمة وردت الكلمة له، العشق بالخلود، «يوسف إدريس»، أديب من طراز فاخر جدًا وثائر من قماشة نادرة جدًا، «يوسف إدريس» أديب جميل ممتلئ بالشغف والدهشة، من أرض مصر له المجد ولنا الزهو به.
داعبتنى كل هذه الذكريات مع يوسف إدريس وأنا أشاهد تحفته «لا وقت للحب» بالأمس ربما للمرة المائة، إنه واحد من أفلامنا يحمل العالمية بجميع المقاييس، وبكل أبطاله أمام الكاميرا وخلفها.
فى هذا الفيلم «إنتاج ١٩٦٣»، وصل رشدى أباظة إلى أرفع مكانة بين النجوم، بل إلى نجم النجوم، وأكدت فاتن حمامة أنها بجدارة صانعة الشاشة العربية النسائية، واعتمدنا صلاح جاهين فارسًا للكوميديا الراقية وخفة الدم على الشاشة كما اعتمدناه شاعرًا وكاتبًا للأغنيات ورسام الكاريكاتير الذى لا يُنافَس، أما المخرج صلاح أبوسيف فقد استطاع المزج بين مشاهد الحب الرومانسية ومشاهد السياسة فى حب الوطن، وجعلهما ضفيرة واحدة فى غاية الإمتاع والإبداع.
وبكل أسف لم يدخل هذا الفيلم فى قائمة أهم وأفضل مائة فيلم مصرى منذ بداية السينما المصرية وحتى عام ٢٠٠٠، ولا أدرى السبب، لا يهم أنا أدخلت هذا الفيلم ضمن أجمل مائة فيلم مصرى وعالمى لها نهاية نادرة الإبداع وقمة فى إظهار التناقضات ومنتهى الخيال الرائع.
تجىء نهاية «لا وقت للحب» بانتباه البطل حمزة لخدعة ذكية فكر فيها أحد الأطفال وشارك فيها الصغار والكبار وكل أهل الحتة لكى يهرب من عساكر الإنجليز المتربصين فى كل شبر ووراء كل باب بعد قيامه بتفجيرات فدائية مع زملائه.
غنى الجميع بصوت يجعلنا نبكى من جمال التضامن الإنسانى بين الجميع يزلزل المكان، اللحن الشعبى «يا وابور يا مولع حط الفحم.. وباقولك ولع حط الفحم.. اوعى البعبع مستنيك.. راح يتعشى ويفطر بيك.. اوعى تخش العشة يا ديك.. خدها نصيحة من الكتكوت.. هنا وقاعدلك بالنبوت.. اوعى تقرب اوعى تفوت.. ارجع تانى أحسن هتموت.. اوعى تقرب اوعى تفوت.. ارجع تانى أحسن هتموت».
مع هذه النهاية العبقرية ندرك أن يوسف إدريس حينما كتب «لا وقت للحب» إنما يعنى فى الواقع «المزيد من الحب».