رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأيام الطويلة لرجل عابر «1»


حرصًا على أن تكون له عادات ثابتة وطقوسًا تنظم فوضى الأيام، اعتاد أن يخرج للتمشية مرتين فى اليوم، فى الصباح والمساء.. وجعل موقع الشمس علامة لتحديد مسار تمشيته، ففى الصباح عندما تكون الشمس ساطعة فوق البحر، يتجه من مسكنه، حيث يتوسط الشاليهات، إلى حدود القرية الشمالية حيث بوابة الدخول، يجىء حرس القرية الذين يؤدون له التحية الميرى، فهم يعرفون أنه «باشا كبير» لكنهم لا يعرفون حقيقة رتبته، وإن كانوا يخمنون أنه على المعاش من الفترات الطويلة التى يقضيها فى القرية.
فى كل صباح يعزمون عليه لشرب الشاى، وفى كل صباح يشكرهم بتربيت يده اليمنى على صدره، وبخطوته الرسمية يلتفت ليعود إلى الممر نفسه، يستغرق الوصول لنقطة الحراسة عشرين دقيقة، وتزيد خمس دقائق عند العودة، فقد يحدث أن يتخذ جانبًا من الطريق منتظرًا عبور طفل فى دراجته الثلاثية، أو مرور خادمة إفريقية على عربة تجرها ثلاثة كلاب ضخمة من نوع الراعى، وهى تحاول التحكم فى سرعتها، لم يفكر يومًا فى أن يقتنى أى نوع من الكلاب، تربية الكلاب مسئولية وهو لم يكن فارغًا يومًا من المسئولية.. قبل الغروب بساعتين يسير فى الاتجاه المعاكس إلى البوابة الحدودية الجنوبية للقرية، وقتها تكون الشمس معلقة على قمة الجبل، مستغرقة فى صعودها ما يزيد على التسع ساعات، يحتفظ دائمًا بالشمس على يمينه فى رحلة الذهاب، وعن يساره فى رحلة العودة.. هل هناك فرق؟ لا فرق.. مجرد رغبة فى ضبط الأشياء، بعض من التفكير نستغرقه قبل بداية وضع الخطة لتنفيذ شىء ثم تسير الأمور بعد ذلك بآلية لا تغيرها إلا التغيرات الجوية المفاجئة فيما يكون الجو رائقًا، والشمس ساطعة، فجأة يحدث تحول فى الجو ويمتلأ الهواء برائحة التراب وتظهر غيمة صفراء تنتشر أمام جسم الجبل، فتكوّن حجابًا عالقًا يبعث الرهبة والترقب كنذير لقادم لا يعرف أحد كنهه، لا يحدث هذا فى تمشية الصباح، بل تمشية المساء هى المعرضة لهذه التغيرات، يبدو أن الصباح ككل الأشياء الجديدة، لديه من القوة ما يجعله يفرض سطوته، لكن المساء المنهك بحمولات وانكسارات العمر والأيام يجعل الأمور تتفلت، فتعيث الرياح، وتأخذ أمواج البحر فى التدافع والتصارع للوصول إلى الشاطئ، يأخذ منقذو البحر فى الصفير لتنبيه السباحين للعودة للشاطئ، وتسرع الأمهات بمساعدة الدادات فى جمع لعب الأطفال، وسحبهم بعيدًا عن الشاطئ نحو الشاليهات، فيما يهم العمال بغلق الشماسى وقلب الكراسى وتمديدها على الأرض خوفًا من قوة الهواء وتمكنها من إسقاط الشمسيات، والتسبب فى أذية أحد.
فى هذا المساء لم أكن أرغب فى الاستكانة أو الاختباء والدخول للشالية، فجلست فى حديقته الأمامية حول البحيرة التى كونتها شلالات متدفقة بمناسيب مختلفة، تبعث التأمل فى قدرة الإنسان على تقليد الطبيعة واستدعاء مظاهرها الجمالية، كى يتمتع بها من يستطيع أن يتحمل تكاليفها.
اشتدت سرعة الهواء، وبدت السحب وكأنها قادمة من خلف الجبل، وليس من عمق البحر كما يمكن للإنسان أن يتصور، بعد انسحاب من كانوا على الشاطئ، لم يعد أمامى غير السفن الرابضة منذ أيام، لا أعرف عددها، حيث تتشابه ألوانها التى لا يظهر منها غير اللونين الأزرق والطوبى. كلها سفن بضاعة، تنتظر دورها للدخول أو الخروج من الميناء الذى تتزايد أضواءه مع تزايد تكاثف السحب.
وحول جلستى أخذت الطيور تحوم بشكل محموم، تحط فى تخبط على سطح البحيرة الصناعية ثم تعود للصعود المنخفض والدوران فى دوائر وخطوط بيضاوية، فيما تشكل بعض الأسراب أشكالًا نجمية متعددة الزوايا والأضلاع، كأنها تحذر من شىء، خطر محدق قادم لا نراه، وهى وحدها تشعر به.