رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تطورات «مبشرة» فى توازنات أزمة «سد النهضة»



كان المفروض أن نستكمل اليوم عملية استشراف آفاق التغيير العالمى المرتبط بوباء «كورونا»، استكمالًا لمقال الجمعة الماضية «انقلاب أنظمة الرعاية الصحية فى عالم ما بعد كورونا»، لكن تطورات بالغة الأهمية طرأت على أزمة «سد النهضة»، قضية الوطن الأولى، فرضت نفسها على التناول.
الجيش السودانى أعاد انتشاره بمنطقة «الفشقة» التابعة لولاية «القضارف» السودانية على الحدود مع إثيوبيا ٢٨ مارس الماضى، لأول مرة منذ ٣٠ عامًا، عندما اضطر للانسحاب تحت ضغط الحرب الأهلية، فى دارفور والنيل الأزرق.. الانتشار فى ظاهره يستهدف إحكام السيطرة على الحدود لمنع انتقال عدوى «كورونا»، لكنه فى الحقيقة لمواجهة بدء انتشار عصابات «الشفتة» الإثيوبية، المدججة بالسلاح التى اخترقت المنطقة منذ منتصف مارس، واقتربت من مشاريع السمسم والحبوب بالأنفال.. هذا الاعتداء يتكرر سنويًا، لسرقة الإنتاج الضخم من المحاصيل الزراعية وتهريبها إلى إثيوبيا، حيث يسقط بسببه عشرات المزارعين، ويتم الاستيلاء على آلاتهم ومعداتهم الزراعية وأراضيهم.. الجديد هذا العام أن النظام الجديد فى الخرطوم بادر بالتحرك والمواجهة.
الملفت، هو تصدى تشكيل من الجيش الإثيوبى للقوة العسكرية السودانية، طالبًا منها الانسحاب من المنطقة، بادعاء تبعيتها لإثيوبيا، وخلال ساعات لحقت بها تعزيزات توغلت فى «الفشقة» بعمق ١٥ كم بمنطقة مشاريع زراعية تخص مزارعين سودانيين، قامت بتوزيع أراضيهم على مزارعين إثيوبيين، وأداء بعض الخدمات لهم، لخلق أمر واقع يستبق عودة الجيش السودانى إليها.. عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السودانى هب لزيارة المنطقة ٨ أبريل، بصحبة ضباط هيئة العمليات ومدير المخابرات العسكرية، وهى أول زيارة على ذلك المستوى للمنطقة منذ عقدين، وأكد أن الجيش لن يتراجع عن حماية حدود البلاد، ولن يسمح بالتعدى على الأراضى السودانية.
والحقيقة أن التصعيد العسكرى الإثيوبى مع السودان، تزامن مع تصعيد دبلوماسى بسحب السفير الإثيوبى من الخرطوم قبل استكمال مدته، وتكليف بديل له ينتمى لقومية الأمهرة، المعروفة بأطماعها فى الأراضى الحدودية السودانية!!.. ويعكس ذلك منحى جديدًا، لكنه كان متوقعًا، منذ أن دعمت الخرطوم بنودًا تتعلق بأمان السد داخل اتفاق واشنطن، وهو أحد الأسباب الرئيسية لانسحاب إثيوبيا، إذ وجدت نفسها بين مطرقة الخرطوم وسندان القاهرة لأول مرة.. تحول الموقف السودانى كان نتاجًا لنجاح ضغوط الخبراء والباحثين السودانيين، فى المطالبة بتضافر جهود السودان مع مصر، لفرض الحل المستدام على أديس أبابا، بما يحفظ للدول الثلاث حقوقها المائية، ويكون مدخلًا لتنمية اقتصادية شاملة محورها مياه النيل، باستثمارات دولية تقودها أمريكا والبنك الدولى.. مجموعة أخرى من الباحثين أثارت التخوفات المتعلقة بالشك فى قدرة جسم السد على تحمل الضغوط الرهيبة، التى تمثلها سعته الإجمالية «٧٣ مليار متر مكعب»، مما يهدد بدمار شامل للسودان، وهذا صار هاجسًا عامًا لدى الرأى العام السودانى، يشكل ضغطًا على الحكومة.
الحراك الشعبى السودانى غير المسبوق دعم تلك الآراء العلمية، «قوى الحرية والتغيير» طالبت من خلال حملة شعبية وندوات حاضر فيها خبراء ومسئولون سابقون معنيون بالملف، بضرورة مراعاة جانب الأمان والآثار البيئية للسد، وهو ما اعتبرته إثيوبيا خروجًا عن الالتزام السودانى التقليدى إبان حكم البشير، الذى كان يستخدم السد فى المكايدة السياسية، بغض النظر عن تأثيره على السودان.. القوى المعارضة للسد التى كانت صامتة خلال حكم البشير، نجحت فى تشكيل مجموعة «مخاطر السد الإثيوبى»، كان آخر فعالياتها بيان «تجمع المهنيين» الذى طالب بتوافر عنصر الأمان قبل توقيع اتفاق الملء والتشغيل، حتى لا يغرق السودان.. جميع السودانيين باتوا على قناعة بأن «المفاوض المصرى كان على حق فى تحفظاته، مما يؤكد أن معلوماته غابت عن السودانيين».. وفوق هذا وذاك وقعت الخرطوم مع مصر اتفاقًا لتشغيل خط الربط الكهربائى بين الدولتين بكامل قدرته «٣٠٠ ميجا وات» خلال الربع الأول من ٢٠٢١، مما أسقط الرهان الإثيوبى على بيع ناتج كهرباء السد للسودان.
بداية تعبير القيادة السودانية عن ملامح التغيير فى موقفها تمثلت فى زيارة محمد حمدان دقلو، النائب الأول لرئيس مجلس السيادة، للقاهرة منتصف مارس، حيث تم استعراض تطورات ملف سد النهضة فى ضوء اتفاق واشنطن الذى وقعت عليه مصر بالأحرف الأولى، وهى الزيارة التى مهدت لها مهمة الوزير عباس كامل مدير المخابرات العامة المصرية للخرطوم.. البيان الصادر عن وزارة الخارجية السودانية بشأن الزيارة، دعا مصر وإثيوبيا للعودة إلى طاولة المفاوضات، للتوصل إلى اتفاق مُرضٍ.. هذه الصياغة حملت شبهة تجاهل اتفاق واشنطن، والحاجة للبدء من جديد، رغم أن السيادة السودانية وأمن مواطنيها كانا يتعرضان لانتهاك شديد بمنطقة «الفشقة».. زيارة عباس كامل الثانية بصحبة وزير الرى للخرطوم استهدفت وضع النقاط على الحروف. حمدوك رئيس الوزراء أكد تمسكه بكل ما تم التوافق عليه خلال مسار واشنطن، وكذا إعلان المبادئ الموقع بين الدول الثلاث عام ٢٠١٥.
هذه التطورات أزعجت أديس أبابا، فأوفدت رئيس هيئة الأركان الفريق أول آدم محمد على رأس وفد عسكرى للخرطوم.. التقى البرهان ورئيس الوزراء حمدوك، لسرعة احتواء المواجهة المحتملة بين القوات المحتشدة على الحدود المشتركة، البرهان شدد على ضرورة الانسحاب الفورى للقوات الإثيوبية، والإسراع فى تحديد موعد للاتفاق على نشر قوات مشتركة على الحدود، على أن يتم الاتفاق عاجلًا على تحديد أعدادها ومهامها ومواعيد نشرها، ووضع علامات بالمناطق الحدودية تمهيدًا لتفاوض سريع حول ترسيم نهائى للحدود.. السودان اتخذ موقفًا حازمًا، لأنه أدرك أن التلويح بتسوية النزاع على «الفشقة» كانت الجزرة، التى طالما لوحت بها إثيوبيا منذ أن بدأت مفاوضات سد النهضة، وكانت أحد مبررات الدعم السودانى لأديس أبابا.. تفجير الأزمة بمواجهة عسكرية على نحو ما حدث، كشف النوايا الحقيقية لإثيوبيا، ما دفعها للوعد بسرعة التسوية.
السودان حاول الهروب للأمام، لتجنب الوقوع فى مركز الاستقطاب.. حمدوك كشف عن زيارته للقاهرة وأديس أبابا فى إطار مهمة وساطة، وذلك خلال اتصال هاتفى أجراه مع ستيفن منوشين وزير الخزانة الأمريكى ٣٠ مارس، للتعبير عن تعاطف الشعب السودانى مع الولايات المتحدة بشأن تفشى «كورونا»، وحرص على تأكيد التزامه باتفاق واشنطن.. آبى أحمد رئيس الوزراء الإثيوبى بدد فى اليوم التالى مباشرة ما تولد من تفاؤل، بالإعلان عن أن بلاده ستبدأ فى ملء خزان سد النهضة الإثيوبى الكبير فى موسم الأمطار المقبل يوليو - سبتمبر ٢٠٢٠، وذلك على الرغم من إحاطة حمدوك المسبقة له بطبيعة المبادرة!.. حمدوك زار أديس أبابا، ليستمع لآبى أحمد ويكرر موقفه الداعى للبدء فى مفاوضات جديدة، تلغى كل الاتفاقيات السابقة، بما فيها اتفاق واشنطن!، وهو ما يتعارض تمامًا مع موقف مصر المبدئى على لسان سامح شكرى من أنه «بعد اتفاق واشنطن، لا مفاوضات جديدة».
إثيوبيا تستغل انشغال العالم بفيروس «كورونا» فى فرض الأمر الواقع فى قضية السد، متجاهلة أن «كورونا» قد يوقع ضحايا من المصريين بالآلاف، وربما أكثر، لكنه مجرد «جائحة» لها نهاية حتمية، طالت أم قصرت.. لكن قطع المياه عن مصر يؤدى إلى كارثة تجفف الأرض وتقتل الزرع وتشرد الفلاحين وتنشر العطش والجوع والمرض والموت بين الناس، وهو ما لا يمكن للدولة المصرية أن تسمح بحدوثه، تحت أى ظرف وبأى ثمن.
أحاديث الحرب رغم ذلك ينبغى أن تكون آخر البدائل على الإطلاق، وهو ما يشجع مصر على تفهم الدلالات الحقيقية لإعلان إثيوبيا الغريب عقب مباحثات منتصف فبراير فى واشنطن بأن «البنك الدولى وأمريكا والسودان ومصر توحدت ضدها»، هذا التوصيف ليس موقفًا سياسيًا يمكن أن تتبناه دولة إفريقية رائدة، عريقة فى السياسة والدبلوماسية، لتخسر به كل هذه الأطراف التى هى فى أمَس الحاجة لها.. أمريكا والبنك الدولى، مصدر النسبة الأكبر للاستثمارات الأجنبية.. والسودان الذى يمكن أن يشكل مع مصر الطرف الآخر لـ«كسارة البندق»، ما يضعها بين شقى الرحى، لأول مرة منذ بدء المفاوضات.. الموقف الإثيوبى فى تقديرنا عبارة عن حملة تعبئة وطنية، لحشد الشعب متعدد الإثنيات، وراء آبى أحمد فى الانتخابات المقبلة باصطناع أزمة، قد تنفك شفرتها عقب الانتخابات مباشرة.
هذا الاحتمال يدفعنا لمزيد من التريث، خاصة أن بدء إثيوبيا عملية الملء فى يوليو المقبل، قد لا يشكل ضغطًا مائيًا كبيرًا على مصر من الناحية الفنية، خاصة إذا اقتصرت على ٥ مليارات متر مكعب، يمكن سحبها من مخزون بحيرة السد، لنمنح النظام الإثيوبى فرصة العبور بأزمة الانتخابات بنجاح.. لكن الإشكالية فى ذلك إمكانية توظيف إثيوبيا له سياسيًا باعتباره انتصارًا يدفعها لاستكمال التعنت، وفرض الأمر الواقع بالقوة.. تجنب ذلك يفرض إشراك الجانب الأمريكى كشاهد على تقدير مصر للظروف الداخلية الإثيوبية، وكذا إدخال حكومات إيطاليا وفرنسا وألمانيا والصين كشهود، بحكم مسئولية شركاتهم عن الأعمال الرئيسية فى السد «سالينى إمبريجيلو الإيطالية المقاول الرئيسى، مجموعة الهندسة الميكانيكية الألمانية (فويث) المورد للتوربينات، ألستوم الفرنسية تركيبات التوربينات والمولدات والمعدات الكهروميكانيكية، مجموعة (Gezhouba) الصينية المحدودة للإنشاءات والمقاولات، وشركة Voith Hydro Shanghai الصينية التى تتولى استكمال بناء محطة التوليد».. هذه الشهادات الدولية تضمن التزام إثيوبيا بما تم الاتفاق عليه، لكنها تغطى فى نفس الوقت أى إجراءات تترتب على تمسك الجانب الإثيوبى بتعنته.. ولا نزيد بشأن ذلك.