رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

انقلاب أنظمة الرعاية الصحية فى عالم ما بعد «كورونا»


الدنيا كلها تردد أن «عالم ما بعد كورونا يختلف تمامًا عما قبلها»، والاجتهادات لتحديد ملامح ذلك العالم الجديد تجرى على قدم وساق، لكنها محاولات مشوشة، منقوصة، لأنها تتم فى وقت يُحكِم فيه الوباء خناقه على الجميع، دون أن يدرى أحد ماذا هو فاعل بنا.. مصر لم يدهمها الوباء حتى الآن، كما فعل مع غيرها، لكنها فى أمَسِّ الحاجة لأن تعرف ماذا يجرى فى العالم، وما طبيعة التغيرات الدراماتيكية التى ستطول كل مناحى الحياة.. هذا المقال يتعلق بمحاولة استشراف آفاق التغيير فى أنظمة الرعاية الصحية، التى كانت خط الدفاع الأول فى الحرب ضد «كورونا»، بما لها وما عليها.
ليس غريبًا ما نحاول البحث عنه، لأن الجوائح ألحقت بالبشر خسائر بالملايين، وأحدثت تغيرات جذرية فى المجتمعات. فالطاعون قضى على ثلث سكان أوروبا ١٣٤٧- ١٣٥٢، لكنه أدى لتطوير قطاع الزراعة، وعزز دور المرأة، تعويضًا عن نقص اليد العاملة، كما وسع نطاق استخدام الفحم الحجرى كمصدر للطاقة، ما مهد لقيام الثورة الصناعية.. الإنفلونزا الآسيوية قتلت قرابة مليون «١٩٥٦».. إنفلونزا هونج كونج قتلت أكثر من مليون فى جنوب شرق آسيا وأمريكا «١٩٦٨».. الأزمة الاقتصادية العالمية «٢٠٠٨» أدت إلى تطوير البنوك، والارتقاء بالآليات الخاصة بضمانات التعامل مع العملاء.. الإنفلونزا الإسبانية أودت بحياة ٢٢ مليونًا «١٩١٨».. إصابات الإنفلونزا العادية قد تصل إلى قرابة ٦٧٠ ألفًا فى الولايات المتحدة وضحاياها عددهم يصل إلى ٥٥ ألفًا من أكتوبر ٢٠١٩ حتى مارس ٢٠٢٠.. الأوبئة بكل بشاعتها كثيرًا ما تصنع التغيير.
مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الأمريكى نشر تقريرًا فى نوفمبر ٢٠١٩، اعترف بالحاجة إلى منظومة أقوى للأمن الصحى، ودعا الإدارة الأمريكية إلى استبدال المنظومة الراهنة للتعامل مع الأزمات، التى تعتمد على ردود الأفعال، بعقيدة قائمة على الوقاية من الأوبئة، لأن حجم ضحايا الإنفلونزا الموسمية أكد هشاشة النظام الصحى الأمريكى.. مجلس متابعة الاستعدادات العالمية المشكّل بدعم منظمة الصحة العالمية والبنك الدولى، أصدر تقريرًا آخر قبل انتشار كورونا، حمل عنوان «العالم فى خطر»، أكد أن القطاع الصحى العالمى غير جاهز للتعامل بالكفاءة المطلوبة مع الأزمات، مستشهدًا بتعامله مع إنفلونزا الطيور والخنازير وغيرهما.. ضخامة حجم ضحايا «كورونا» ليست مفاجأة، لمن يتابع ضحايا أنظمة الرعاية الصحية فى دول العالم، وعدم قدرتها على التجاوب مع الإنذار المبكر.
هشاشة النظام الدولى، وتواضع أخلاقيات السياسة الدولية، تفسران إحجام الدول عن تبادل المساعدة.. تركيا تأخرت عن توريد مستلزمات علاجية لإيطاليا رغم سداد قيمتها مسبقًا، واستولت على شحنة كمامات صينية كانت متجهة لإسبانيا.. جمهورية التشيك استولت على شحنة معدات طبية، موجهة من الصين لإيطاليا.. إيطاليا بدورها استولت على باخرة صينية كانت متجهة إلى تونس تحمل كحولًا طبيًا.. فرنسا احتجزت شحنة مساعدات طبية متجهة لبريطانيا.. ألمانيا استولت على ٢٤٠ ألف كمامة مرسلة من سويسرا للنمسا.. أوكرانيا أوقفت ١.٥ طن من الكمامات المرسلة للإمارات.. وشحنة تتضمن ٦ ملايين كمامة كانت متجهة جوًا لألمانيا اختفت بمطار نيروبى.. حتى الصين عندما اشتد عليها الوباء يناير الماضى، احتاجت لـ٥٠ طن مواد طبية من الاتحاد الأوروبى.. حرب المواد الطبية حولت دولًا متقدمة إلى «قراصنة»، نتيجة قصور القدرات الوطنية عن إنتاج ما تحتاجه منها، ما سيفرض مراجعة شاملة للمنظومات الإنتاجية.
نمط حياة الناس فى الصين وقيمهم الغذائية وأسلوب حياتهم، يجعلهم مصدرًا لتصدير الأوبئة إلى العالم.. تأخرت فى اكتشاف «كورونا» حتى انتشر داخلها، لكن نظام الإدارة المركزية وفر مناخًا أفضل لمحاصرة الوباء، وسرعة استخدام علاجات سمحت بتحقيق أعلى نسبة شفاء فى العالم «٩٣٪»، الصين أدخلت تغييرًا جوهريًا على نمط حياة الشعب، بفرض «حظر شامل» على تجارة الحيوانات البرية وأكلها، وهى العادة التى يُشتبه فى تسببها بتفشى الوباء.
النظام الصحى فى أمريكا وأوروبا ودول العالم الثالث أثبت عجزه عن الوفاء بمتطلبات الأمن القومى وقت الأزمات.. حتى أجهزة الكشف وبحوث اللقاح اعتمدت فيها على شركات دولية، لعدم قدرة الشركات الأمريكية على الوفاء بها، النظم الغربية طنطنت كثيرًا بشعارات حقوق الإنسان، وعايرت بها دول العالم الثالث، لكنها عجزت عن ضمان أهم حقوق مواطنيها «الحق فى الحياة».. الدول الغربية عجزت عن بناء أجهزة صحية متطورة لمواجهة الأوبئة، وافتقدت حسن التقدير للمواقف المتعلقة بالأمن الصحى.. وزير الصحة الفرنسى أكد أن الفيروس لن يصل إلى فرنسا.. إيطاليا فضّلت الحفاظ على المواسم السياحية والرياضية، حتى انهار النظام الصحى، ووصل الأطباء إلى مرحلة الاختيار بين المريض الذى له أولوية للحياة ومن يموت.. إسرائيل فضّلت إجراء الانتخابات على الاعتراف بالإصابات، والتبكير فى مكافحة الوباء.. وترامب اعتبر الإنفلونزا أخطر من «كورونا»، قبل أيام قليلة من إعلان حالة الطوارئ، وتخصيص ٥٠ مليار دولار لمكافحة الوباء.. الاعتبارات السياسية والاقتصادية أنهت حياة بشر.
أمريكا سقطت هيبتها كقطب عالمى أوحد، يوم تساقط مواطنوها موتى أمام المستشفيات وداخل طرقاتها، لأنهم لم يجدوا سريرًا بالرعاية المركزة، ولا جهاز تنفس صناعى، ولا علاجًا شافيًا من وباء يحصد البشر بالآلاف.. وفقدت مركزها القيادى فى العالم يوم تصرفت بأنانية وغلبت مصالحها الذاتية، ولجات لأساليب أبعد ما تكون عن الاحترام.. السطو على الشحنات الطبية وسحب أنواع معينة من الأدوية لاحتمال صلاحيتها لعلاج الوباء، كان واحدًا من المظاهر.. اشترت أقنعة طبية من الصين كانت موجهة لفرنسا بثلاثة أضعاف سعرها.. وترامب أمر بمنع إرسال المستلزمات الطبية لكندا.. وغابت كدولة عظمى تمتلك قدرات بحثية بالغة التقدم، عن تقديم الدعم الطبى لدول العالم، لأنها غرقت لأذنيها فى أزمتها الداخلية.
كورونا كشف عورة السياسات الليبرالية التى تبنتها الدول الغربية منذ الثمانينيات، وعززها ريجان فى أمريكا وتاتشر فى بريطانيا، بتقليص دور الدولة إلى أقصى درجة، وإخضاع قطاع الرعاية الصحية لقوانين السوق وآليات العرض والطلب، وجاء ترامب ليقاوم تشييد نظام جديد للتأمين الصحى، رغم علمه بتدهوره. ترامب فشل فى إدارة الأزمة.. أحاديثه اليومية عكست خلطًا شديدًا فى إدراكه لأبعادها، فقد تحدث باستهتار عن أرواح آلاف الأمريكيين التى تزهق يوميًا نتيجة لعجز النظام الصحى، وأسرف فى الكلام عن حلول علاجية، رغم أن ذلك أبعد ما يكون عن تخصصه، ولم ينس نصيبه فى الدعاية الانتخابية سواء مباشرة، أو بالاستعانة بطاقم معاونيه، وخاض تراشقات سياسية مع الديمقراطيين على جثث آلاف من ضحايا الفيروس.
انهيار القطاع الصحى فى الدول الغربية، دفعها لاتخاذ إجراءات تمثل ردة عن الليبرالية التى اتبعتها. ترامب طلب من مصانع جنرال موتورز وفورد سرعة إنتاج أجهزة التنفس الصناعى، لكنهما لم تستجيبا إلا عندما تم تفعيل «قانون الإنتاج الدفاعى»، الذى يسمح بسيطرة الدولة على المصانع، ما أجبرهما على صنع ٤٠ ألف جهاز تنفس، كانتا تساومان على تكلفتها ومدة تسليمها سعيًا للربح.. إيطاليا أممت شركة الطيران الوطنية «أليتاليا».. إسبانيا أممت المستشفيات الخاصة.. وفرنسا أكدت أنها قد تلجأ لتأميم بعض الشركات لإنقاذ الاقتصاد الوطنى من الانهيار.. الأزمة أكدت استحالة استمرار النظام الراهن، وحتمية إجراء تعديلات جوهرية تسمح بإدراج جميع استثمارات القطاع الخاص، وبالذات فى المجال الصحى، سواء مؤسسات علاجية أو إنتاجية معنية بالأجهزة أو الأدوية، ضمن خطة الدولة القومية، على النحو الذى يضمن استعدادًا أفضل لمواجهة الأوبئة والكوارث الصحية.
القوى العظمى بصفة عامة أعطت أولوية لأبحاث الفضاء وتطوير الأسلحة والتجهيزات العسكرية والاستعداد للحروب الكيماوية والبكتريولوجية، وذلك على حساب البحوث العلمية المدنية، وأغفلت احتياجات الطوارئ، خاصة فى مجال الرعاية الصحية.. تجربة «كورونا» أكدت أن مخزونات القنابل الذرية والهيدروجينية والصواريخ البالستية والأساطيل الجوية والبحرية والجيوش الجرارة، لم تكن قادرة على مواجهة عمليات القتل والإصابة التى مارستها جائحة «كورونا» بشراسة، وأنه لو تم تخصيص نسبة صغيرة من الميزانيات العسكرية للبحوث العلمية فى المجال العلاجى، لما وقف الجميع عاجزًا أمام ذلك الاكتساح الوبائى.. والأخطر هو احتمال أن تكون تلك الأزمة نموذج محاكاة للحروب البكتريولوجية والكيماوية، وهى الأيسر والأقل كلفة ما يفرض الاستعداد لها، بعد أن ثبت عدم تأهل المنظومات العلاجية فى كل دول العالم لمواجهتها.
الأزمة أكدت أن النظم التى تعتمد على استثمارات القطاع الخاص تهتم بالربح قبل رعايتها البشر، وهى أقل كفاءة مقارنة بنظيرتها فى الدول التى ما زالت تحكمها المركزية كالصين.. وخلقت مفهومًا جديدًا للأمن الصحى، يفرض على الحكومات وضعه على رأس الأولويات الاستراتيجية وبنفس مستوى الاهتمام بالتكنولوجيا والأمن الدفاعى، حتى تكون قادرة على التصدى الفورى لمثل هذه الجوائح.
جائحة «كورونا» بما أحدثته من انهيارات لأنظمة الرعاية الصحية، كشفت عن ثغرات فى جدار الأمن القومى بكل دول العالم، فى وقت تتعاظم فيه البحوث المعملية الخاصة بالحروب البكتريولوجية والكيماوية، ما يفرض على الدول إعادة النظر فى حجم وأسلوب تمويل النظام الصحى وتطويره، على النحو الذى يسمح بمواجهة أفضل لمثل تلك الأوبئة.. تفعيل دور المشاركات المجتمعية فى دعم الخدمات الصحية، سواء أفراد، أو مؤسسات وجمعيات أهلية، أمر لازم، شريطة أن يتم ضمن خطة تضمن توجيهها للأنشطة والقطاعات التى تعانى نقصًا فيها.. أقنعة الوجه قد تصبح مظهرًا عاديًا أثناء التواجد بالعمل، وفى المواصلات العامة والأماكن المزدحمة.. الفحوص الطبية للمسافرين ستصبح إجراءً إلزاميًا، يمنع الركاب الذين تظهر عليهم أى أعراض من السفر.. و«العلاج عن بُعد» إحدى الآليات التى سنتجه للاعتماد عليها بقوة، فكم من مرة انتقلت فيها العدوى من مريض إلى الطبيب أو عنصر التمريض والعكس، اللجوء لتلك الآلية يكفل أمن الطبيب والمريض بتكلفة أقل، ومزيدًا من الراحة واليسر.
العالم يعيش حالة حرب حقيقية، والمشهد يؤكد ذلك. مدن مغلقة.. شوارع فارغة.. حالة طوارئ.. دوريات شرطة وجيش مدججة بالسلاح لمراقبة مدى الالتزام.. هى حرب كونية ثالثة بكل المقاييس، لكن جنودها المحاربين هم الأطباء وأطقم التمريض، فئة جديدة تحمل علم الوطنية، وتشارك العسكريين ورجال الشرطة خط المواجهة لأول مرة، للحفاظ على صحة المواطنين وحقهم فى الحياة، أسوة بشرف الدفاع عن التراب الوطنى.. هذا الدور للجيش الأبيض سيصحبه حراك للمراتب الاجتماعية، يزحف فيه الأطباء وطواقم التمريض ليصطفوا بجوار عناصر الجيش والشرطة، كدرع واقية للدفاع عن الوطن وحياة مواطنيه.