رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سد النهضة: فلنواجه الحقيقة!


فليسمح لي القارئ اللبيب، أن أخرج معه، وبه، من دوامة "كورونا"، وأهوال ما جرّه هذا الفيروس اللعين علينا وعلي البشرية قاطبة، والأخبار التى تصدمنا علي مدار الساعة حول عدد المصابين والقتلي والمُعافين، وإجراءات الحماية الاحترازية، وأنباء العزل والدول والمناطق المنكوبة، وجهود التوصل إلي ترياقٍ شافٍ، ثم آثاره الاجتماعية والاقتصادية العنيفة، وما شابه، لكى آتطرّق معه إلي لحظة مهمة من لحظات وطننا، هى ـ بكل المقايس ـ بالنسبة لبلادنا وشعبنا تمثل تحدٍ بالغ القوة، يحتاج منا جميعاً إلى التكاتف، والتفكير الجماعى المشترك، بهدف الوصول إلى أنجع السبل للنجاح فى مواجهتها، والخروج من مأزقها بأقل الخسائر، وأهون التكاليف.

المقصود بهذا الحديث هو التطورات الخطيرة التى أعلن عنها "آبى أحمد" رئيس وزراء أثيوبيا، أول هذ الشهر، مُنتهزاً فرصة انشغال العالم كله، ومصر جزء منه، بمواجهة جائحة فيروس "كورونا المتجدد"، والتطورات التى استولت علي جهود البشرية، كلها شعوباً وحكومات، من أجل حصار آثاره المدمرة، ونتائجه الكارثية، والبحث عن سبل مقاومته والحد من خسائره وترقب النتائج والتبعات المترتبة عليه!

فمثلما حدث ابتداءً حينما استغلت أثيوبيا عام 2011، انشغال مصر وشعبها ودول المنطقة وشعوبها، فى ملاحقة التفجرّات السياسية والاجتماعية التى شهدتها بلادنا، للبدء فى بناء "سد النهضة"، وتغيير مواصفاته بما يُهدد مصير وحياة مصر والمصريين، استغلت ظروف التفات مصروالعالم كله إلى هجمة "كورونا" وبذل كل الجهود لمنعه من اجتياح الدول والشعوب، لكى تكمل خطواتها التى لم تلتفت إلى المصالح المشتركة لشعوب النهر، ولا أقامت اعتباراً لحق الجيرة وعلاقات التاريخ وضرورات الجغرافيا، فقد أعلن "آبي أحمد" فى الأول من هذا الشهر، وفى مناسبة الذكرى التاسعة لانطلاق العمل فى السد، أن: "الملء سيبدأ فى موسم الأمطار المقبل رغم تحديات كورونا"، (أى بدءًا من يونيو وحتى سبتمبر القادمين)، حسبما نشرت جريدة "الشرق الأوسط"، (عدد 2 أبريل الماضى)، بينما أكد وزير المياه والطاقة والرى الأثيوبي، "سيليشى بيكيلى"، أن: "الأعمال فى المشروع قائمة على قدم وساق"، دون أدني إشارة إلى نيّة أثيوبيا وضع رأى مصر، أو رؤيتها لحيوية مياه النيل، وضرورتها لمستقبل وجودها المادى ووجود شعبها، موضع الاعتبار!

ولعلنا لا ننسى مراوغات ومماطلات الحكم الأثيوبي، وتفننه فى إضاعة الوقت وتبديد الجهود، والتنصُّل من كل اتفاق سابق مُلزم له بحكم مواضعات القانون الدولى، ومنها علي سبيل المثال الاتفاق الموقّع بين رؤساء كل من مصر وأثيوبيا والسودان، فى مارس عام 2015، والذى يُلزم أطرافه ـ فى مادته الخامسة ـ بضرورة الاتفاق علي قواعد ملء وتشغيل السد قبل البدء فى الملء، تجنباً للإِضرار بالحاجات والمصالح الحيوية لدول المصب، وكذلك تهربه من المشاركة فى اجتماع واشنطن فى أواخر شهر فبراير المنصرم، حتى لا يلتزم بموقف يفرض عليه مراعاة الرؤية المصرية، والتخلي عن مسلكياته الانفرادية التى تدفع الأمور إلى تخوم أزمة مُستحكمة.

أما الدافع لتصريح "آبى أحمد" الأخير، فهو الظن بأن انشغال العالم كله بجائحة الفيروس اللعين، وفى مُقدمته الولايات المتحدة، التى تبدو مرتبكة وعالقة فى هذا المستنقع بصورة لا تترك أمامها مُتسعاً للنظر فى غيرها من قضايا، يوفر لأثيوبيا فرصة ذهبية، هبطت عليها من حيث لاتنتظر، تيسر لها استكمال مشروعها، ضاربةً عرض الحائط بمطالب مصر، ومتجاهلةً كل الحجج الموضوعية التى قدمتها لإعادة النظر فى قراراتها الأحادية التى تدفع الأمور لحدود حرجة، لا يحب أحدٌ الوصول إليها!

والآن ما العمل؟!
أدق ناقوس التنبيه، لخطرٍ داهم يوشك أن يفجأنا، ولا يصح فى مواجهته الانفعال أو المُزايدات، وإنما التفكير.. التفكير العميق منّا جميعاً، للخروج من هذا المأزق "الوجودى" الخطير. تماماً كما كان الفيلسوف "اسبينوزا" يقول ما معناه: "إذا واجهتك كارثة.. لاتبك، ولاتضحك، وإنما ... فكر".. فلنفكر بهدوء، وفى كل الاحتمالات والمخارج المُتاحة، وبرشدٍ وعقلانيةٍ واتزان، لكى نواجه الأزمة، على كل محاورها، بالصورة الواجبة.