رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اليوم التالى لـ«كورونا» «1»


على الرغم من أنه من المبكر ادعاء القدرة على إصدار أحكام نهائية، حاسمة وقاطعة، بشأن المتغيرات والتطورات والنتائج التى ستترتب، حتمًا، على معركة العالم التى يخوضها، فى الوقت الراهن، فى مواجهة هجمة فيروس كورونا المتجدد، فإنه يكاد كل الخبراء والمفكرين يُجمعون على أن «اليوم التالى» لـ«كورونا»، أى المرحلة التى ستتبع القضاء على شروره المتفشية، ومحاصرة أضراره المستشرية، لن يكون بأى حال من الأحوال على وتيرة اليوم السابق لانتشاره، أو حتى امتداد له مع بعض التغييرات الهامشية، بعد أن تكشَّف أمام العالم طبائع وخافيات أوضاع الدول كافة، وبانت أمام مليارات البشر، وعلى رءوس الأشهاد، حقائق القدرة، وكفاءة الإدارة، دون محاولة للتجميل أو فرصة للتأويل.
وعلى ما تقدم يمكننا أن نرصد مجموعة من المؤشرات العامة، أولها أن عالم الأحادية القطبية، الذى تربعت فيه الولايات المتحدة على عرش الهيمنة على شئون الكون، منذ ثلاثين عامًا، بعد انهيار الاتحاد السوفيتى السابق، دون أن ينازعها أحد، يوشك على أن يطوى صفحته، بعدما عرّت مواجهات «كورونا» واقع أمريكا، زعيمة المجتمع الرأسمالى العالمى فى حقبته النيوليبرالية، وكشفت عورات الطبقة الحاكمة فيها، التى تفرغت لتكديس تريليونات الدولارات، وإشعال الحروب، ونشر الأسلحة، وأدوات الدمار الشامل فى أرجاء المعمورة، وللهجوم على أى دور اجتماعى للدولة هنا وهناك، دون أن توفر الحد الأدنى من احتياجات المجتمع الأمريكى الصحية، وتركته نهبًا للقلق والذعر والموت، حتى اجتاحته الجائحة، وهو يفتقد الوسيلة التى تعينه على النجاة.
ولم تكن هذه حال الولايات المتحدة وحدها، بل نافسها فى سوء التقدير، وعجز القيادة، وبؤس الأداء، وبدرجات متباينة أغلب دول المنظومة النيوليبرالية، وعلى رأسها إنجلترا، وإيطاليا، وإسبانيا، وألمانيا، وغيرها من الدول، التى ضربها الوباء، حتى فى رأس مسئوليها، والأخطر أن هذه الأزمة أبانت عن أنانية هذه الدول، وهشاشة العلاقات البينية التى تجمعها، رغم انتمائها إلى تحالفات ومنظمات سياسية واقتصادية وثقافية واحدة: «المجموعة الأوروبية»، و«السوق الأوروبية المشتركة»، و«حلف ناتو»، وغيرها، فحين حمَّ القضاء تسارعت كل دولة للنجاة بنفسها، ولو على حساب الأخرى، وشعار كل منها: «أنا ومن بعدى الطوفان»، بل رأينا دولًا تسلك سلوك القراصنة فتستولى على محتويات طائرة هبطت للتزود بالوقود فى أحد مطاراتها، مليئة بمواد إغاثة طبية، أرسلتها الصين كمعونة عاجلة لإيطاليا المنكوبة، وشاهدنا «ترامب» يسعى لشراء براءة اختراع مصل شافٍ من الوباء مشترطًا ألا يستخدمه أحد من خارج بلاده، ورأينا رئيس دولة صربيا، وهو يكيل المديح للصين وشعبها وقيادييها، بعدما سارعوا بإنقاذ بلاده ومدها باحتياجاتها من الأطباء والأجهزة المساعدة، بعدما أدارت له بلاد المنظومة التى انتمت إليها بلاده، عقب تحلل الكتلة الاشتراكية، ظهرها، وأصمت أذانها عن سماع استغاثات بلاده.
وفى المقابل، كان أداء الدول التى تؤمن بمركزية إدارة الدولة، وبدورها القائد ومسئوليتها الاجتماعية، أكثر كفاءة وفاعلية، حيث استطاعت الصين، على سبيل المثال، امتصاص صدمة الانتشار الوبائى للفيروس فى منطقة «ووهان» بمجرد حدوثه، وأن تفرض سياسة حكيمة لمحاصرته والتعاطى العلمى الصحيح معه، بحشد كل طاقات المجتمع على قلب رجل واحد، وشاهد العالم التزامًا طوعيًا من ألف وأربعمائة مليون مواطن بكل التعليمات والتوجيهات الصادرة عن القيادة لمحاصرة الخطر، وتابع مليارات البشر على شاشات التليفزيون ووسائط التواصل الاجتماعى كيف اجتمعت كفاءة القيادة، وحسن الإدارة، واستخدام أحدث وأرفع منتجات العلم والمعرفة التكنولوجية، فى هذه المعركة حتى تم الانتصار فيها.
بل إن دولة صغيرة كدولة كوبا الاشتراكية محاصرة منذ أكثر من ستة عقود من الولايات المتحدة المُتَجَبِّرة، ولا تملك إلا أقل القليل من الإمكانات والثروات، نجحت، رغم ويلات الحصار، فى أن تقيم نظامًا رائدًا للضمان الصحى، يدعمه نظام علمى متقدم، استطاع أن يحمى البلاد من مخاطر الوباء، وأكثر من ذلك، أن يُقدم، بكل أريحية، دعمًا مشكورًا لمن أصابتهم الجائحة فى مقتل، ضاربًا نموذجًا مغايرًا للغيرية والتضامن الإنسانى، والإيمان بوحدة مصير الإنسانية.
ومن هنا فإن أولى نتائج جائحة «كورونا»، حسب تقديرى، سيكون بدء أفول نجم الرأسمالية المتوحشة، وتطبيقاتها النيوليبرالية التى فُرضت فرضًا على العالم، فى إطار «العولمة» الأمريكية، خاصة أنها تعانى من ملامح أزمة اقتصادية لا مخرج منها، مقابل عودة الروح إلى الفكرة الاشتراكية، بتجلياتها المستحدثة، ذات الأفق المنفتح والبُعد الإنسانى، ليس خارج المنظومة الرأسمالية فحسب، إنما فى أعماقها ذاتها، مؤذنة ببزوغ عصر جديد.
ولا عزاء للبروفيسور «فوكوياما»، ونظريته لـ«نهاية التاريخ» عند محطته «النيوليبرالية»، التى، واعترف هو بذلك، قد ولّى عهدها.