رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سيدة النساء: فى ذكرى رحيل روز اليوسف.. سر الأم التى أنجبت إحسان عبدالقدوس


فى يوم الإثنين ٢٦ أكتوبر ١٩٢٥، صدر العدد الأول من مجلة «روزاليوسف»، المطبوعة التى حملت تاريخ مصر السياسى بلغة وطنية خالصة، بأقلام متمردة، جسورة، مبدعة، واعية، مستنيرة. أصدرتها فاطمة اليوسف أو «روزاليوسف»، المرأة التى تركت مجد المسرح لتدخل عش الدبابير، الصحافة، التى تمر ذكرى رحيلها الـ٦٢ فى ١٠ أبريل هذا العام.

«روزاليوسف».. المطبوعة الورقية الشعبية التى كانت، وما زالت، حلم أجيال من النساء والرجال يحملون شعلة التغيير من خلال صحافة نزيهة تحوى كل الاتجاهات والأطياف والأعمار والتخصصات المبدعة، من تحقيقات صحفية ومقالات دسمة وكاريكاتير وثقافة وشِعر وحوارات وأخبار وتقارير.
لا أتذكر منْ الذى قال: «منْ لم يكتب على صفحات روزاليوسف، أو منْ لم يتدرب فى فترة من حياته بين طرقاتها، فقد جواز سفره إلى الصحافة الحقيقية».
٦٢ عامًا تمر على رحيل «روزاليوسف» أو فاطمة اليوسف، الفنانة الجريئة الفريدة صاحبة الأدوار الكلاسيكية العالمية على خشبة المسرح، صاحبة الرأى الحر والطموح الذى لم يهدأ حتى لفظت أنفاسها العطرة فى ١٠ أبريل ١٩٥٨.
ولأنه من الصعب جدًا أن تنفصل «الابنة» عن «الأم»، فلا نستطيع أن نفصل بين «روزاليوسف» (المطبوعة) و«روزاليوسف» (الإنسانة)، فقد أورثتها خلاصة أفكارها وعصارة تجاربها وجينات أحلامها فى الحرية والفن ومكانة النساء.
النساء فى عصر «روزاليوسف»، وفى كل عصر، بصفة خاصة إذا كانت بدايتهن الفن والمسرح والتمثيل، يفكرن عند الاعتزال فى استثمارات سريعة الربح سهلة الترخيص، مشاريع لا تجلب المشاكل لا تثير حفيظة أحد، مثل فتح بوتيكات للتجميل وتصفيف الشَعر، أو تصميم الأزياء للطبقات الثرية ومسايرة الموضة فى لندن أو باريس أو ميلانو، أو تفتح محلات للأكل والشرب.. مشاريع مضمونة الحاضر، مأمونة السُمعة والمستقبل.
لكن «روزاليوسف» كانت من فصيلة نادرة، تركت شهرة ومجد المسرح وأرادت أن تشارك فى تحرر ونهضة الوطن بالدخول مباشرة فى «عش الدبابير»، والاشتباك السافر مع سلطات الاحتلال والملك وهيمنة القصر وفساد التحالفات السياسية والأحزاب بالقلم والكلمة والصحافة، ولم يهمها أرصدة البنوك، أو حصولها على لقب سيدة الأعمال، أو حرم فلان الغنى المشهور.
لم تكن تملك إلا خمسة جنيهات مصرية أصدرت بها الابنة البكرية، فى ٢٦ أكتوبر ١٩٢٥، الحاملة اسم الأم، التى كانت بمثابة بؤرة النضال الوطنى، وصوت الشعب المشتاق إلى التحرر والاستقلال، واعتلت القمة، حتى إنها هددت «الأهرام»، الصرح العملاق، وغيرها من المطبوعات التى تحالفت وأصدرت أوامرها إلى باعة الصحف بألا يوزعونها، وكانت النتيجة تراكم الديون على «روزاليوسف» الأم إلى درجة الإفلاس، مما جعل السلطات تحجز عليها، ولم تستثن الحجر على أخص ما تملك.. ملابسها.
ربما خسرت «روزاليوسف» الفلوس، لكنها كسبت حب وتقدير وإعجاب الناس، واستطاعت بشكل ما أن تصمد وتتعافى، بفضل وقوف أصحاب الشهامة الوطنية، ومنْ آمنوا بها وبرسالتها، وفى سنة ١٩٥٦، قبل رحيلها بعامين، أصدرت الابنة الثانية، مطبوعة «صباح الخير» التى أسست معانى جديدة راقية لحرية الشباب، نساءً ورجالًا، وتفتح عقولهم وقلوبهم.
قالوا عنها: «سارة برنار الشرق»، وقالوا عنها: «قطعة من الذهب يكتنفها الغموض»، وقالوا عنها: «بريمادونا المسرح»، وقال الرجال عنها: «امرأة تساوى ملايين الرجال»، وقالوا عنها: «الصلابة فى شكل امرأة»، وقالوا عنها: «الأم التى أنجبت إحسان عبدالقدوس»، وقال الابن عنها: «أمى التى صنعتنى»، وقالوا عنها: «يا لها من امرأة».
لكننى أقول عنها إنها فقط «روزاليوسف»، امرأة نادرة أدركت أن الكلمة المكتوبة أقوى من الأسلحة، وأحبت أن تكون لها طلقات الرصاص الخاصة بها والحاملة اسمها.
الناس مشغولون اليوم بعواصف الربيع والأتربة المنتظرة فتحات النوافذ، وتصاعد الخطر من تهديدات فيروس «كورونا»، واستعجال الوصول إلى البيت قبل حظر التجول، واحتمال توقف مسلسلات رمضان، وشم النسيم الذى يأتى فى أجواء الفيروسات.
لكننى لست منشغلة بكل هذا.. إننى منشغلة بكيفية الاحتفال بذكرى رحيل «روزاليوسف»، أو فاطمة اليوسف، فى أبريل ٢٠٢٠.
إن فيروس «نسيان الرواد» وتجاهلهم أخطر ألف مرة من فيروس «كورونا»، وبكل أسف هو فيروس مزمن، وفى كل اتجاه ومكان وزمن، ولسنا نفكر فى إبادته، أو تعقيم وتطهير بؤر تجمعه فى الذاكرة.