رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خواطر محتجز منزليًا «2»



تتلاشى ميزة الانبهار بالأشياء الجديدة، وتتلاشى متعة الفرح بالجديد، كل الأشياء أصبحت مهمشة، وفى الليل تأتى كل الكوابيس المزعجة، ولا تعرف ماذا ينتظر العالم، كآبة الدخول فى المجهول تتضخم عندما تذهب إلى الفراش، والقلق على الغائبين والبعيدين.
نقضى أغلب أوقاتنا أمام التليفزيون.
فى الصباح. برنامج «صباح الخير يا مصر»، وعندما تستيقظ البنات، يظل التليفزيون تحت سيطرتهن، متنقلات بين قنوات الطبخ، ووصفات طبيخ مكلفة وغالية وغريبة، يتخلل تلك القنوات متسولون يعرضون حاجاتهم ومعاناتهم، ويعدهم الشيف، سواء كان رجلًا أو امرأة، بأن يلبى طلباتهم بعد أن يتركوا عناوينهم وتليفوناتهم. أكيد هناك من يتبرع، أو القناة خصصت جزءًا من الإعلان لزيادة الإقبال على البرنامج، وليشكل عامل جذب لبعض الشرائح الفقيرة التى لا تهتم أصلًا بالطبخ.
ننام بالليل على إحصائيات المرضى والموتى فى العالم، وحيرة الدول العظمى أمام المرض، ونترقب طلة وزيرة الصحة المصرية بأناقتها، ودونالد ترامب بجسده الفارع، ومدير منظمة الصحة العالمية الذى يحث العالم على المساعدة، والتحذير من ماكينات الصرف، وبرامج تترصد خطًا طفيفًا وتضخمه، ودعوات للتسول فى إعلانات أجورها باهظة، تدعو للتبرع لمرضى السرطان، تظهر صور ذويهم فى حالة سيئة.
ونستيقظ بلا هدف، نشاهد برنامج «صباح الخير يا مصر» بلا اهتمام. الدعوات إلى المكوث فى البيت صارت ممجوجة، وشباب تافه يتهكم على حياتنا فى الحجز، وتكذيب يومى للشائعات التى يختلقها المتربصون ويصدقها الضعفاء، وجدل فى الفيس حول المصريين الذين عادوا من الخارج وكانوا عالقين، وخرجوا من المطار يلعنون البلد الذى أحضرهم دون تنفيذ إجراءات الحجز، ولا يهمهم أن ينقلوا العدوى لأهلهم ومواطنيهم، وفنانة كويتية مغمورة تشتم المقيمين ببلدها، ومصريون غيورون على كرامتهم ينقلون لنا ما يقوله بعض التافهين من شباب الكويت.
لم نكن نعتقد أن بريطانيا، الدولة العظمى، ولا إسبانيا التى اكتشفت أمريكا، ولا أمريكا أقوى دولة فى العالم، ولا إيطاليا مهد الفنون، كل تلك الدول التى كانت تبهرنا تُسيّرها حكومات فاشلة، ورئيس الوزراء البريطانى يفقد وعيه، ويتكلم بهذا التخبط والخفّة والسذاجة، ولم يدر بالكارثة التى تعصف بالآلاف من سكان بلده.
هل توقعنا إيطاليا بهذه الشيخوخة وبهذا الضعف فى كل شىء، لا إجراءات استباقية، لا علاجات كافية، ولا قدرة على محاصرة الفيروس؟
أصبحت حساسيتنا للنظافة مرضًا، كرهنا الفيروس، وكل من يريد أن يحدثنا عنه، والتضخيم من قوته الخارقة.
متعة النزول بالليل فى أى وقت، أول الليل، لذة الراحة بعد الإرهاق، لم يعد هناك ما يرهق غير التفكير فى الآتى الكئيب.
أخذت منا الأزمة الكثير من الأمور الجميلة فى حياتنا، لكنها علّمتنا كمواطنين العودة إلى المطبخ لكى نصنع خبزنا بأنفسنا، ونغسل أوانينا ونطبخ وجباتنا على نار هادئة، ونلعن آلاف الأكلات السريعة التى استهلكناها فيما سبق، وأن نطهر بيتنا وأشياءنا التى نستعملها.
أما أحسن ما فى الاحتجاز، أن نُحتجز فى مكتبة، وأن نعود إلى الكتب التى لم نقرأها، والتى أهملناها أو نسيناها، متعة العودة إلى المجلات القديمة بما فيها من أخبار كانت طازجة، وصارت الآن تاريخًا، وأن نبتكر ما ننشغل به طوال الوقت، بدلًا من استهلاكه فى أمور تافهة والجلوس ساعات طوال فى المقاهى يراقب بعضنا بعضًا، وأن نرشّد إنفاقنا ونلعن الاستهلاك الشّرِه والتفاخر بالأثواب والحلى وأنواع السيارات والتليفونات والساعات والأجهزة، وعلى الدول أن تتعلم الاعتماد على قدراتها، لا على العطايا والتوسلات وإظهار أهالى المرضى وأطفالهم الفقراء فى صور كريهة، لنتسول لهم.
أحسن ما فى الاحتجاز أن نُحتجز فى مكتبة وأن نعود إلى الكتب التى لم نقرأها والتى أهملناها أو نسيناها متعة العودة إلى المجلات القديمة بما فيها من أخبار كانت طازجة.