رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ياسين عدنان: حصر الخسائر المتراكمة لكورونا سيحتاج وقتًا طويلًا

ياسين عدنان
ياسين عدنان

من المؤكد أن العالم ما بعد وباء كورونا لن يعود كما كان قبله، وربما سيأتي اليوم الذي يؤرخ فيه بكورونا، وربما قيل الوقائع الفلانية حدثت قبل أو بعد الكورونا. وبعيدًا عن روايات أو عالم الــ"ديستوبيا"، استطلعت "الدستور" آراء العديد من الكتاب والمثقفين حول هذا الفيروس القاتل، وكيف يتخيل الكتاب شكل العالم ما بعد الكورونا؟ وما التأثير الذي سيتركه على الأدب، وعليهم شخصيًا، وهل سيفرض هذا الوباء نفسه على الكتابة فيما بعد، أو حتى تداعياته والتأثير الذي تركه على العالم كما نعرفه؟ كل هذه الأسئلة وغيرها في محاولة لاستشراف عالم الغد.

يقول الكاتب والإعلامي المغربي"ياسين عدنان": كمن يجرفه سيل عارم أعمى، وهناك من يسأله عن تصوره للحياة والمستقبل بعد أن يلقي به السيل –إن حصل ونجى- على يابسة. كذلك حال من يجد نفسه مجبرا على التأمل في مصير العالم بعد هذه الجائحة. ومع ذلك، فيمكن منذ الآن تخمين بعض التحولات المفصلية. علاقتنا بأجسادنا أولًا في علاقتها بأجساد الآخرين، هل ستبقى على حالها بعد الخروج من الحجر الصحي؟ فالتباعد الجسدي الذي يسمونه اليوم التباعد الاجتماعي لا شك أنه سيربي داخل أجسادنا نوعا من الحذر "المستحدث" من أجساد الآخرين. العناق، الاحتضان، تبادل القبلات الحارة تعبيرا عن الشوق، وحتى تلك المصافحة الشديدة دلالة على مدى توطد الصداقة، كلها أشياء لا شك أن أجسادنا بدأت تتعود على الارتياب منها.
لذا أتصور أن الكثير من العادات ستتغير على هذا المستوى. الاندفاع التلقائي باتجاه الآن، التقارب الجسدي، التلامس العفوي، كله سيتغير. بل حتى حركة أجسادنا في الشارع قد تتغير. كنا نتحرك في الشارع بأمن تام وكأن الأرض لنا والسماء لنا نحن سادتها. لا يُخشى علينا منها إلا بمقدار ما قد يسبب البشر لبعضهم البعض من متاعب. الجريمة، القمع، الاعتداء. كل التهديدات مصدرها الانسان، فيما نتصور أن الطبيعة التي ندمرها يوميا بشكل منهجي مغلوبة على أمرها، وحتى تعبيراتها الصاخبة عن الغضب من حين لآخر عبر العواصف والفيضانات والزلازل والبراكين والأعاصير فهي تبقى محلية محدودة في الزمان والمكان، ولقد اجتهد الإنسان في إيجاد وسائل لمواجهتها والالتفاف عليها، أو التفاوض معها واستباقها أحيانا.

فكم من سد منع فيضانا هنا وهناك، وكم من أجراء احترازي ساهم في الالتفاف على غضب الطبيعة في هذه المنطقة أو تلك من العالم. اليوم، الطبيعة تعلن عن غضبها الشامل في صمت صاعق. تماما كمن يطلقون الرصاص غزيرا في الشوارع بعشوائية في كل الاتجاهات من مسدسات كاتمة الصوت. فهل بعد انجلاء هذه الغمامة السوداء الكثيفة التي أرخت بظلالها علينا جائحة كورونا، ستعود علاقتنا مع محيطنا الطبيعي إلى سابق صفائها وعفويتها؟ هل سنعود للارتماء في أحضان الطبيعة كما كنا نفعل، هكذا بأريحية وطمأنينة عالية؟ هل سنشعر اتجاهها بنفس الأمان السابق؟ لا أظن، وربما هذا المطلوب. فقد استهننا بمحيطنا كثيرا، ونحن مطالبون بمراجعة علاقتنا معه، واجتراءنا عليه بكل هذه القسوة والصلافة التي كنا نتصرف بها أفرادا، حكومات ودولا.

تابع مقدم برنامج "بيت ياسين": ثم على ذكر الأفراد، هل سيبقى لنا نفس التصور لذواتنا كأفراد. هنا يمكن فعلا الحديث عن تحولات مختلفة باختلاف البلدان والثقافات. إذا كان الغرب قد أنجز مشروع حداثته على مختلف المستويات الفكرية والسياسية والصناعية، ليتم بناء عليه تحرير الفرد هناك من سطوة الدولة والدين والمجتمع، فإن حداثتنا المعطوبة معطوبة أساسًا لأنها حتى اليوم لم تُعلِ من قيمة الفرد ولم تتح له الهوامش المطلوبة لكي يتحقق. ما زال الصوت الجمعي مهيمنا، وما زال الأفراد يعيشون في كنف الجماعة عليهم بالامتثال لصوت الحاكم والفقيه. المصيبة، هي أن الغرب بعد أن عاش فرديته بالطول والعرض، يعيش اليوم رجة قوية وهو يسائلها وينتبه لحدودها. فهذا العزل الاجتماعي والجسدي للإنسان أشعره بمدى ضآلته وجعله يراجع فرديته الطاغية لحساب الحياة مع الآخر والحاجة إليه. فالخلاص من الوباء مثلا ليس مطمح أفراد فقط وإنما هو مطمح جماعي، والخطير هو أنه لا يمكنه أن يتحقق إلا بشكل جماعي، بالانخراط الجماعي في ما تتطلبه المرحلة من وقاية وعزل. عزلك كفرد ضروري لحماة الجماعة. وعدم انضباطك لمعايير السلامة والوقاية المطلوبة هو تهديد للجماعة: للأفراد الآخرين الذين يشكلون هذه الجماعة. إذن هذه العودة إلى الجماعة والى الخلاص الجماعي سيقود العالم إلى أفق جديد في الحياة والمجتمع والعلاقات ما بين الأفراد والمجتمعات. المصيبة أننا قد نكون مجبرين من موقع تبعيتنا الفكرية والثقافية والحضارية للغرب على الانخراط فيه، لكن دون أن نكون قد عشنا تجربة الفرد كما بلورتها الحداثة وحققتها في المجتمعات الغربية. وهذا عطب كبير سينضاف للأعطاب الحضارية الكبرى التي نجرجرها معنا منذ بداية عصر انحطاطنا كأمة عربية إسلامية.
ثم إن مفهوم الأمة بنفسه يجب مراجعته. هل سيظل الاتحاد الاوروبي على تماسكه بعد ما تخلت أوروبا بشكل غريب على إيطاليا مع بداية أزمة كورونا؟ كذلك النظام العالمي الجديد هل سيظل على ما هو عليه بعد اندحار أمريكا ومعها المنتظم الدولي لصالح اختيارات استراتيجية فاجأت العالم كالنموذج الصيني المحير في طريقة تدبيره للأزمة وتفاعله معها دولة وشعبا، أو النموذج الكوبي الذي وجد نفسه يخرج من من التهميش الإعلامي الكبير والممنهج له على مدار عقود من الحرب الباردة المستمرة عليه، ليقترح على إيطاليا والعالم دعما طبيا لم يتوقعه الإيطاليون مثلا بعدما ما طالهم من ذوي القربي وظلمهم الأشد مضاضة.

اختتم مؤلف رواية "هوت ماروك": ثم ماذا عن فضائنا العربي الإسلامي، لقد كان واضحا أن منطقتنا عاشت هذه المحنة كدول قطرية. لكن العام في تفاعلها مع الأزمة هو لجوء الجميع إلى الانتظارية وإلى مواجهة ألداء بالدعوات. الإفلاس في مجال البحث العلمي يبدو مريعا في عالمنا العربي، لذا لا بديل عن أكف الضراعة، لا بديل عن الدعوات. وهي مع الأسف الشديد لا تكفي؟ هل نتصور من الأمة ردا حضاريا ثقافيا بعد أزمة كورونا، لا أعتقد ذلك. ومع ذلك، فقد تنتبه بعض الأقطار الى أن المنظومة التربوية والصحية في بلادنا هي أكثر استراتيجية مما كنا نتصور، وبالتالي تستشعر مدى الحاجة الملحة للاستثمار فيها بجدية أكبر. لكن متى وكيف؟ هي أسئلة ستبقى مؤجلة، لأنه بعد أن يغادر هواءنا الوباء، ستكون أمامنا العديد من الخسائر المتراكمة التي قد يحتاج منا مجرد إحصائها وقتا طويلا جدا.