رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من طينها الطيب يخرج أبناؤها الطيبون


والأرض الطيبة، يخرج نباتها طيباً بإذن ربها.. تساءل أحدهم على مواقع التواصل الاجتماعي: هل المصريون بشر؛ أم أنهم أشبه بالملائكة؟.. وحتى نصل إلى قلب الإجابة، دعونا نقرأ الحكاية التي رواها طبيب سعودي.. قال (أعمل في أحدى مستشفيات مدينة الرياض، عاصمة المملكة العربية السعودية.. وقد صادفت نوبتجيتي في قسم الاستقبال أن جاءت دورية الشرطة بمواطن مصري في حالة إغماء، فأدخلناه قسم الطوارئ، وأجريت له إسعافات أولية حتى استقرت حالته، بعدها تم نقله إلى داخل المستشفى لاحتجازه لأنه يحتاج علاجاً مكثفاً وغالي الثمن).. يستطرد الطبيب السعودي (أدخلت يدي في جيبه وأخرجت محفظته فوجدت بها عشرين ريالاً فقط، لا تساوي سعر زجاجة دواء واحدة، وهو يحتاج علاجاً لا يقل ثمنه عن أربعمائة ريال لليوم الواحد، ولمدة يومين).. مضيفاً (لم أقدر على الإنصراف من المستشفى قبل أن يصحو من إغمائه، وجلست قرابته حتى يفيق واسأله إذا كان يعرف أحداً في الرياض يتصل به ليأتي ويصرف له الأدوية ويقف معه.
طال الإنتظار، منذ الحادية عشر صباحاً وحتى العصر.. إلى أن أفاق المريض وفوجئ بوجوده في المستشفى.. طمأنته بأنه بخير ولا داعي للخوف، ثم أحضرت له ماءً فشرب، وأبلغته بأنه تم العثور عليه في الشارع واحضرته الدورية للمستشفى.. وأخبرته أنه يحتاج علاجاً لا نستطيع تدبيره، لأن في محفظته عشرون ريالاً فقط، والعلاج يتكلف أربعمائة في اليوم الواحد).. أمن المريض على صدق ما معه من نقود، وأنه لا يملك غيرها.. سأله الطبيب (هل تعرف أحداً في الرياض؟)، قال (لا أعرف أحداً، لكن أين روشتة العلاج؟).. أعطاه إياها، فأمسكها ونظر إليها، ثم ناولها للطبيب مرة أخرى وقال له (أخرج إلى الشارع العام، وأي مصري يمر عليك، أعطه الروشتة وقل له لك أخ مصري مريض هنا في المستشفى ويقولك اصرف لي الروشتة دي).. أصاب الطبيب الذهول، ومن بعده الفضول، وكان عليه أن يفعل مثل ما قال له المريض، حتى يرى النتيجة.
انطلق الطبيب بالروشتة نحو الشارع، وراح يرقب المارة، وبعد دقائق، رأى شخصين عرف من ملبسهم ولهجة كلامهم أنهما مصريين.. وقف أمامهم وقال لهم مثل ماقال له المريض، فاستلما منه الروشتة، وسألاه عن رقم الجناح الذي يرقد به، ثم انصرفا.. قال الطبيب (انتابني الشك في عودتهما، وقلت سوف يمزقان الورقة).. ودخل المستشفى فوجد المريض نائماً، وراح يقص لبعض زملائه الموقف وهو يضحك لأنه لا يثق في حضور الدواء.. وقبل أن يسترسل في كلامه، وقعت المفاجأة.. يقول الطبيب (أثناء ضحكنا، أتي رجل من الإثنين الذين قابلتهما ومعه العلاج كاملاً، ومن بعده أتى الرجل التاني حاملاً بيديه أكياس فاكهة).. جلسا إلى جوار ابن بلدهما وأقعداه وراحا يبتسمان في وجهه ويطمئنانه أنه بخير وسوف يخرج بخير، يقولون ذلك وهما يطعمانه الفاكهة في فمه.. وبعد قرابة ساعة انصرفا، بعد أن رفعا الوسادة التي ينام عليها، وتركا له شيئاً تحتها.. يقول الطبيب (كل ذلك، وأنا أراقب كل تحركاتهما، ولما انصرفا ونام المريض، ادخلت يدي تحت راْسه فوجدت مئتا ريال.. ساعتها شعرت أني لست إنسان.. كان بإمكاني فعل كل ما فعلوه وزياده، لكن لم أفكر فيه,, اللهم احفظ مصر وشعبها),, إنتهى.
قد يأنس البعض لهذه الرواية، في حين يشكك في صدقها البعض الآخر، لكن تبقى دلالتها الأساسية في أن ذلك يمثل طبيعة الإنسان المصري الملتصق بلُحمته المصرية، المُسارع إلى الوقوف إلى جانب أخيه.. وتلك مفاتيح الشخصية المصرية، أشهد أن كثيراً من رؤساء مصر لم ينتبهوا إليها، وفهما الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي دائماً ما يؤكد على صلابة هذا الإنسان وقدرته على التكاتف في مواجهة الشدائد.. أثبتتها الوقائع والأحداث كثيراً، وبرهنت عليها أكثر، ما شهدته مصر مؤخراً من أحداث، وعلى رأسها تفشي فيروس كورونا في العالم، وأصبح كالحريق الذي يتطاير شرره في كل مكان، أو كما قال أستاذ علم الأوبئة بجامعة هارفارد الأمريكية، مارك ليبستش، الذي شبه الطبيعة العالمية لخطر كورونا بحريق الغابات، تكثيف إجراءات السيطرة عليه في مكان واحد يفشل إذا كانت هناك شرارات في أماكن أخرى، والآن هناك وابل من الشرر يتساقط.. في حين حذر المحلل الأمريكي أندرو براون من أن ثورة الاتصالات والمواصلات التي جعلت العالم شديد التشابك والترابط، لا يمكنها أن تجعله آمنا صحياً أو مناخياً أو حتى اقتصادياً أو مالياً، ويبقى كل ذلك رهن تحقيق التعاون الوثيق بين العالم.. ويرى براون أن اللحظة الحالية التي تمر بها الشعوب تستوجب تحركا عالمياً مركزاً ومنسقاً، بدلاً من المواقف السياسية، وذلك في الوقت الذي حشدت فيه الصين إمكانيات هائلة لاحتواء الوباء، ولدى الدول الغنية أنظمة رعاية صحية متقدمة، وشبكات ضمان اجتماعي واسعة يمكنها التخفيف من وطأة الكارثة على شعوبها، لكن الاقتصادات الضعيفة والمتعثرة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسطـ تفتقر إلى المؤسسات القوية والقدرات الطبية، وهي ترقب وصول الجائحة إليها.
ومع أننا بين الدول التي لم تقف على قدميها بعد بصلابة، بعد أن أنهكتها السنوات العجاف التي مرت بها، وكادت تفقد تماسكها خلال السنوات العشر الأخيرة، لولا أن قيد لها الله قائداً مثل الرئيس السيسي، إلا أننا واجهنا أزمة كورونا بما لم يخطر على تاريخ المصريين في أزمات مشابهة من قبل.. وقد أكد أولو العلم بأن الدول لا تُظهر صلابتها إلا بمقدرتها على التصدي للأزمات.. وكم من أزمة نشرت سحائبها السوداء على البلاد، خلال السنوات الأخيرة، لكنها سرعان ما تنقشع، لا لشيئ إلا لأن هناك دولة مصرية، خلعت عن نفسها ثوب الارتجال والتعامل مع الأزمات بعد وقوعها، واستبقتها فأعدت العدة لمواجهتها، في حين أوشكت دول مستقرة على الضياع، لأنها استهانت بما هو قادم إليها، فطوتها الجائحة تحت رهبتها حتى أفقدتها توازنها.. لا أقول ذلك بدافع التباهي ولا الشماتة، لا قدر الله، ولكنه وضع للأشياء في نصابها.. فهل يعرف الناس أن العالم يشهد أكثر من ثلاثة مليارات شخص، وضعوا قيد الحجر الصحي؟.. وحتى كتابة هذا المقال، فإن أكثر من 34 ألف شخص، ماتوا جراء الإصابة بالفيروس الذي يضرب أوربا بقوة وخصوصاً إيطاليا؛ وتأتي إسبانيا في المرتبة الثانية لأكبر عدد وفيات في العالم، وتجاوز عدد الإصابات في الولايات المتحدة عتبة المئة ألف شخص، بعدما تصدرت قائمة الدول الأكثر إصابة.
في الوقت الذي يؤكد فيه الرئيس السابق للمفوضية الأوربية، جاك ديلور، إن (الأجواء التي تسود على ما يبدو بين رؤساء الدول والحكومات وغياب التضامن الأوربي يُنذر بخطر مميت)، لم تكتفي مصر بإجراءات مواجهة الفيروس داخل البلاد، ولم ترض إلا بجمع شتات أبنائها العالقين في دول العالم، وسعيها لعودتهم، عبر إجراءات خاصة إلى البلاد، بل سارعت إلى الوقوف إلى جوار غيرها من الدول التي تحتاج هذه الوقفة وتلك المساندة، التي ربما أدهشت الكثير، وأثارت الغُصة في حلوق بعض ممن يتمنون السقوط لمصر وهلاك شعبها، تماماً مثلما وقف شبابها، من المقيمين في مدن إيطاليا يوزعون الطعام والمساعدات على كل ساكني هذه المدن، دعماً لهم في محنتهم، لا يفرقون بين أحد منهم، على أساس الدين أو العرق أو الجنسية.. يفعلون ذلك فقط، لأنهم شركاء الإنسانية، القِيمة العظمى التي تشرّبوها من طين مصر الطيبة المحروسة.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.