رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مُنزلًا مباركًا.. كيف تُرزق البركة من الله؟


ليس هناك خير يتمناه الإنسان أعظم من أن يتحصل على البركة، التى هى سر من أسرار الخالق سبحانه، لا يملكها كل الناس. فكم من أحد يملك المال ومع ذلك تراه لا يشعر بالبركة فيه، ودائمًا ما يشكو من «قلة البركة» على الرغم من ثرائه الذى قد يحسده غيره عليه، وكم من آخرين لم يرزقوا من المال الكثير، لكنهم غارقون فى البركة، يعيشون حياة سعيدة، ويتنعمون بما تفيأ الله به عليهم من نعم؟!
البركة هى شىء ملموس، نشعر بها عند وجودها فى حياتنا، مثلما نشعر بها عند غيابها، وأساس تحقيقها تقوى الله فى كل شىء، فى العبادات والمعاملات، لذا فإن من خالف أمر ربه إلى ما نهاه عنه، فقد حرم منها، ومن غش أو احتال أو ظلم، فهو كذلك محروم من البركة، أما من راقب الله فى سره وعلانيته، فقد نالها ونال خيرها.
والنبى، صلى الله عليه وسلم، عندما دخل المدينة فى نهاية رحلة الهجرة لم ينزل من فوق ناقته ولم يضع قدميه على الأرض إلا بعد أن دعا بهذا الدعاء: «رَّبِّ أَنزِلْنِى مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ» ثلاث مرات، فكانت البركة العظيمة التى نزلت على المدينة منذ ذلك اليوم وحتى يومنا هذا.
وهذا الدعاء مأمور به المسلم عند الإقدام على أى أمر جديد فى الحياة «زواج، شراء شقة جديدة، عمل جديد، افتتاح شركة»، حتى يبارك الله له فى خطوته التى يعتزم الإقبال عليها وحتى لا يحرمه البركة، فيحرم الخير الكثير.
وقصة هذا الدعاء الذى ورد فى سورة «المؤمنون» على لسان نبى الله نوح، عليه السلام، هو أنه بعد أن أغرق الطوفان الأرض والجبال، بعدما أصاب قومه غضب من الله لعدم إيمانهم به، أمره الخالق بأن يركب السفينة التى حمل معه فيها من كل زوجين اثنين من المخلوقات كما أمره الله تعالى، وأن يدعوه: «وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِى مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ».
فالسفينة سوف ترسو على أرض جديدة بعد أن ينتهى الطوفان ومعها حياة بشرية جديدة، ولذلك قال الله عز وجل لسيدنا نوح: «فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وقل رَّبِّ أَنزِلْنِى مُنزَلًا مُبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ»، لتكون الحياة الجديدة على الأرض فيها البركة والتيسير والتوفيق وهى العناصر التى تكمن فى سر هذا الدعاء العظيم.
الأمر فى حقيقته فوق ما يستوعبه عقل بشر، لكنها قدرة الله ومشيئته، التى تجلت فى نصرة «نوح» وهلاك قومه، بعد أن ظل يدعوهم ٩٥٠ سنة عامًا، فلم يؤمن معه إلا القليل، فركب السفينة ومعه من كل المخلوقات زوجان اثنان، أى ذكرًا وأنثى من كل صنف من الحيوانات والنباتات والثمار وغير ذلك، ليؤسس لحياة جديدة فى مكان جديد، فلازم مع تلك الحالة أن يدعوه بما يهيئ له من أسباب النجاح والتوفيق فى مهمته العظيمة.
وقيل إن الله سبحانه أمره بأن يقول هذا الدعاء عند دخوله السفينة، وقيل عند خروجه منها، لكنها فى كل الأحوال دليل على أن الإنسان عندما يكون مقبلًا على أمر جديد، أن يدعو ربه بهذا الدعاء المبارك، حتى يكتب له التوفيق فى كل خطوة يخطوها، وقد قالوا: الثناء على الكريم يغنى عن سؤاله.
وكما يقول الشيخ الراحل محمد متولى الشعراوى فى خاطرة إيمانية له حول قوله تعالى «مُنزَلًا مُبَارَكًا»، فإن الشىء المبارك هو الذى يعطى فوق ما يتصور من حجمه، كأن يعيش شخص براتب بسيط عيشة كريمة ويُربِّى أولاده أفضل تربية، فيتساءل الناس: من أين ذلك؟ ونقول: إنها البركة التى تحلّ فى القليل فيصير كثيرًا، صحيح أن الوارد قليل لكن يُكثِّره قلة المنصرف منه.
ومثّل لذلك بشخص يرتزق من الحلال، فيُيسِّر الله أمره، ويقضى مصالحه بأيسر تكلفة، فإذا مرض ولده مثلًا يشفيه الله بقرص أسبرين وكوب من الشاى، ولا يفزع لمرضه؛ لأنه مطمئن القلب، راضى النفس، واثق فى معونة الله.
أما الذى يتكسب من الحرام ويأكل الرشوة.. إلخ، فإن مرض ولده يهرع به إلى الأطباء ويتوقع فى ولده أخطر الأمراض، فإن ارتشى بعشرة صرف عليها مائة.
وهذه البركة هى «رزق السَّلْب الذى لا يزيد من دخلك، إنما يُقلِّل من مصروفاتك».
والآية هى تعليم من الله عز وجل لعباده إذا ركبوا وإذا نزلوا أن يقولوا هذا الدعاء، بل إذا دخلوا بيوتهم وسلموا قالوه.
والعلماء يجيزون لمن سكن بيتًا جديدًا، أو يريد أن يشترى بيتًا أن يدعو الله بهذا الدعاء: «وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِى مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ»، كما كان يفعل الصحابة والتابعون، والذين كانوا يقرأونها عند دخول المنزل وفى المسجد وفى المجالس.
فكن على خطاهم سائرًا، واجعل هذا الدعاء حاضرًا على لسانك وفى قلبك عند كل خطوة تخطوها فى حياتك، حتى يكتب الله البركة، فإنها غاية كل مؤمن، وليست فى المال فحسب كما قد نتوهم، بل هى كل فى شىء «العافية، المال، الوعى، فى الحل والترحال»، فمن دعا به كتب له التوفيق والتأييد من الله.