رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رمضان يستاهل


ربما لا يعرف البعض أن الحجر الصحى الذى يتم تطبيقه فى هذه الأيام، ويقوم على فكرة العزل الذاتى، وبقاء الناس فى منازلهم، أو التحفظ على المرضى فى أماكن منعزلة عن الأصحاء، ضمن الإجراءات الوقائية من وباء «كورونا»، هى فكرة كان النبى صلى الله عليه وسلم أسبق بالدعوة إليها قبل ١٤ قرنًا من الزمان. فقد دعا عند تفشى وباء الطاعون إلى لزوم الناس أماكنهم، فلا يدخلون إلى مكان انتشار الوباء، ولا يخرج الذين أصابهم الوباء من بلدهم إلى غيره، وهو إجراء صحى بكل المعايير الطبية العالمية حاليًا.
وبلغ الحد إلى أنه جعل الخروج من البلدة كالفرار من الزحف، وهو من كبائر الذنوب، حتى يثبت الناس فى أماكنهم، فلا يدخلون ولا يخرجون.
روى البخارى فى صحيحه قصة عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- حين خرج إلى الشام، فلما وصل إلى منطقة قريبة منها يقال لها «سرغ»، بالقرب من اليرموك، لقيه أمراء الأجناد أبوعبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه بأن الوباء قد وقع بأرض الشام، فقال عمر ادع لى المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم بأن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أن تُقْدِمَهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عنى، ثم قال: ادع لى الأنصار، فدعاهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عنى، ثم قال: ادع لى من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعاهم فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تُقْدِمَهم على هذا الوباء. فنادى عمر فى الناس إنى مُصَبح على ظَهْرٍ فأَصْبِحوا عليه، فقال أبوعبيدة بن الجراح: أفرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرُك قالها يا أبا عبيدة نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديًا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبدالرحمن بن عوف وكان متغيبًا فى بعض حاجته، فقال: إن عندى فى هذا علمًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه»، قال: فحمد اللهَ عمر ثم انصرف.
وعن جابر بن عبدالله- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الفار من الطاعون كالفار من الزحف، والصابر فيه كالصابر فى الزحف» رواه أحمد.
وقد ضرب النبى- صلى الله عليه وسلم- مثلًا عظيمًا فى كيفية مواجهة الأزمات والمصائب، والتصدى لها بإرادة جماعية، لا فردية، حتى ينجو الجميع ويأخذوا بأيدى بعض إلى بر الأمان.
وفى الحديث الذى رواه النعمان بن بشير- رضى الله عنهما- عن النبى صلى الله عليه وسلم، قال: «مثل القائم فى حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين فى أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا فى نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ مَن فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا»، إذن الأمر واضح تمامًا فى ضرورة أن يأخذ الجميع بأيدى بعض حتى ينجوا، وإلا- لا قدر الله– غرقوا جميعًا.
وانطلاقًا من المبدأ الإسلامى العظيم فى ضرورة الحفاظ على النفس، ندعو كل المصريين إلى الالتزام بالإجراءات الوقائية التى تدعو إليها الجهات الصحية بأن يلزموا بيوتهم، حتى تمر هذه الفترة بأمان وسلام على الجميع بإذن الله، وحتى يأتى شهر رمضان، وجميع المصريين سعداء، فرحون فيه بالطاعات.
جلوسنا فى المنزل ليس رفاهية، ولا ترفًا، بل ضرورة، وفرضًا على الجميع، حتى ندرك رمضان، ونحن على أفضل حال.. ننعم فيه بأجواء العبادة.. ونسعد فيه بلقاء الأحبة.. «خليكم فى البيت.. رمضان يستاهل».. «خليكم فى البيت رمضان يستاهل عشان ليلة القدر». هذا الوباء الذى ضرب العالم، وأثار الفزع فى نفوس الناس هو رسالة للبشرية: «إنكم تجاوزتم الحدود».. ليست رسالة غضب من الله تعالى، بل هى رسالة تربية، حتى لا نغفل الجانب الروحى فى الحياة، وننسى حقيقة وجودنا فيه الإعمار وعبادة الله الأحد.. «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ».
هو «قرصة أذن» كما يقولون لكل غافل حتى ينتبه من غفلته، ولكل متجاوز فى حق الله حتى يتوقف ويعود إلى صوابه ورشده، فلو لم تكن هناك الابتلاءات لتمادى الإنسان فى غيه وطغيانه إلى أبعد حد، لكنه قانون الله فى الكون، الذى يضع ضوابط لكل شىء، ولا يترك الأمور هكذا عبثًا.
هى رسالة ربانية بحاجة جميعًا إلى أن نستوعب معانيها، وندرك ما فاتنا فيما هو لاحق من حياتنا، وأن نقف مع أنفسنا وقفة جادة لا تهاون فيها، نشد فيها عليها، ونلزمها بما يحبه الله وإن كرهت، ولن تستقيم لنا الحياة، إلا إذا كان هوانا فيها موافقًا لهوى النبى- صلى الله عليه وسلم- وعملنا بجد على تطبيق أوامره، واجتناب نواهيه، «قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».
واتباع هدى الرسول، صلى الله عليه وسلم يجلب محبة الله، بأن نفعل ما يدعو إليه، ونجتنب ما ينهى عنه، وما دام وهو المعصوم- صلى الله عليه وسلم- قد نهى وقت انتشار الوباء عن الدخول إلى بلد والخروج منه، فنحن بنصيحته أولى أن نتبعها.. فلا خطر علينا، إذا طبقنا الإجراءات الوقائية والتعليمات الصحية بحذافيرها، بدون تراخٍ أو تهاون منا.
كلنا مأمورون بأن ننصح بعضًا ونحذر بعضًا، حتى يكتب الله لنا السلامة أجمعين، وما أحوج البشرية لأن تقتدى بسلوك هذه النملة التى كرمها الله بذكرها فى القرآن فى سورة «النمل»، حين سارعت إلى تحذير بقية النمل من مصير الهلاك الذى ينتظرها، حتى تتفادى الخطر.
القرآن يقول حكاية عنها: «حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِى النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ»، لم تنشغل النملة بمصيرها فقط، ولم تعمل على مواجهة الخطر بمفردها، بل انشغلت بمصير غيرها، وحثتها على حماية أنفسها فى رسالة تحذير متناهية القصر، لكنها بالغة الوضوح، فكانت النجاة لها أجمعين، وكذلك نحن جميعًا نسأل الله أن ينجينا من كل كرب وبلاء.