رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

٣٣٦ ساعة من العزلة


تمنيت كثيرًا أن أعتزل الناس، خاصة من يتسببون فى إحداث الجلبة والضوضاء، وما أكثرهم، لكنى لم أتخيل أبدًا أن أعيش ١٤ يومًا أو ٣٣٦ ساعة من العزلة الاختيارية داخل منزلى، ومع أفراد أسرتى فقط، بعيدًا عن الناس والأهل والجيران.. لا أفتح باب بيتى ولا أتجاوزه إلا للضرورة القصوى، لكن ما لا أتخيله قد حدث بسبب فيروس كورونا المستحدث أو «كوفيد- ١٩».
بدأت طريق العزلة الاختيارية على أمل النجاة من الفيروس اللعين، وقبل أن أكمل اليوم الرابع عشر كانت الدنيا قد بدت لى بشكل آخر، أقل بريقًا وأقل سحرًا مما اعتقدت، فما جدوى كل هذا الضجيج والسعى وراء حياة يمكن أن تذروها كائنات مجهرية لا ترى بالعين المجردة يعرفونها بالفيروسات؟!
ما جدوى كل هذا الجرى وراء المال والمناصب والنفوذ عندما تشعر بأن هذه الكائنات المجهرية يمكن أن تدمر كل شىء حولك، دون أن تراها أو أن تمتلك القدرة لتحديها ومحاولة التعامل معها، وإن استطعت اليوم كسب المعركة، فأنت على موعد غدًا أو بعد غد مع كائنات مجهرية أخرى ستشعرك بمقدار ضعفك الحقيقى، وأنك لست سوى ظاهرة صوتية، أو فقاعة من الغرور والكبرياء غير المبرر وغير المنطقى، فكل عضلاتك وأفكارك وفلسفتك ومنطقك وكبريائك، لا تستطيع حمايتك من كائنات لا ترى بالعين المجردة.
أعجبتنى كثيرًا مقولة «اعتزل ما يؤذيك»، وأعجبتنى أكثر مقولة لعلى بن أبى طالب، رضى الله عنه، وهى «يأتى على النَّاسِ زمانٌ تكون العافية فيه على عشرةِ أجزاء تسعةٌ منها فى اعتزال الناس والعاشرة فى الصمت»، وكم تمنيت أن أمتلك تلك العافية، خاصة بعدما لاقيت على مدى ستة عقود عشتها فى هذه الدنيا، ولكن هناك فرقًا كبيرًا بين ما تتمناه وما تدركه إذا عشت التجربة، أو لامست مبدأ اعتزال الناس لأيام قليلة.
الأمر ليس سهلًا، كما قد نتمنى، وليس ممتعًا كما قد نتخيل، فاعتزال الناس قد يريحك لساعات أو لأيام قليلة، سرعان ما تدرك بعدها أن الحياة من غير الناس لا تساوى شيئًا، مهما أجهدك هؤلاء الناس، ومهما حاصروك بغبائهم أو بأطماعهم، أو حتى بضوضائهم وإزعاجهم.
ذكرتنى هذه العزلة الاختيارية بحكاية مليون شخص يابانى يعيشون تجربة الـ«هيكيكومورى» أو الانسحاب من المجتمع، فبعض هؤلاء لم يخرجوا من البيت لمدة تزيد على ستة أشهر، بل إن البعض لم يخرج من البيت سنوات عدة وصلت إلى ٣٠ عامًا، وقد بدأت هذه الظاهرة الصادمة عام ١٩٩٠ فى اليابان وتفاقمت فى غضون ١٠ سنوات، حيث ساعدت الأزمة الاقتصادية فى أن تنزوى فئة من الناس فى بيوتها وتنسحب من الحياة الاجتماعية، وقيل فى محاولة لتفسير هذه الحالة إن هذه الفئة لم تعد لديها القوة على مواجهة المجتمع، كما أن التكنولوجيا جعلت الانسحاب من الحياة الاجتماعية ممكنًا، حيث يمكن أن يطلب الشخص مستلزماته كافة، وهو فى المنزل ويظل على تواصل مع الآخرين.
ما أثار الخوف والقلق أنه عندما حدثت بعض جرائم القتل اكتشف رجال الشرطة أن وراء هذه الجرائم أشخاصًا تم تصنيفهم بأنهم «هيكيكوموری»، ولم يعرف حتى الآن الأسباب العلمية التى تقود الناس للتصرف بهذه الطريقة.
اعتزال الناس إذن ليس هو النعيم كما نعتقد فى لحظات الإحباط والانكسارات، بل هو طريق المرض النفسى والعضوى أيضًا، وهو ما تؤكده الأمريكية ﺳﻴﻨﺜﻴﺎ ﺑﻮﻳﺪ، الإﺧﺼﺎﺋﻴﺔ فى أمراض الشيخوخة بجامعة ﺟﻮن هوبكنز، وأنا هنا أركز على عزلة كبار السن لأن كل الدراسات والتحليلات أكدت أنهم أولى ضحايا فيروس كوفيدـ ١٩، فقد أكدت بويد أن اﻟﻌﺰﻟﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﻮﺣﺪة لكبار اﻟﺴﻦ تؤثر سلبًا ﻋﻠﻰ اﻟﺼﺤتين اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ واﻟﺠﺴﺪﻳﺔ، وهى سبب للوفاة اﻟﻤﺒﻜﺮة وللإصابة بالخرف، كما أنها سبب إصابة ٥٠ بالمائة من كبار السن ﺑﺄﻣﺮاض اﻟﻘﻠﺐ والسرطان والسكتة الدماغية، وتزيد احتمال اﻟﺘﺮاﺟﻊ الوظيفى بمقدار ٢٥٪.
ورغم كل هذه الوحشة الناجمة عنها فإن للعزلة فائدة مهمة، وهى إعادة اكتشاف الذات، فهى تعطيك فرصة لأن تتعرف على نفسك من جديد.. تدرك مواطن القوة والضعف لديك، تدرك حقيقة حجمك وهل يتناسب مع ما حصلت عليه من رزق ومن نعم، هل نجحت لأنك كنت صاحب عضلات وجهد كبير، أم لأن قوتك فى عقلك وموهبتك؟!، هل كانت مخاوفك من المحيطين بك فى محلها، أم أنك بالغت كثيرًا فى الحذر؟.. من دون لحظات التأمل العميقة خلال فترات العزلة، قد تأتى الحياة وتذهب دون أن تقرأ تجربتك الإنسانية وتقيّمها بوضوح.
وقد تكتشف اكتشافًا مذهلًا كالذى توصل إليه أديبنا الكبير الرائع توفيق الحكيم، وهو أنك كنت أسيرًا لـ«سجن الطباع»، أو سجن طبعك وأنك رفضت التطبع بالأفضل.
«الطبع»، كما يقول توفيق الحكيم فى كتابه «سجن العمر»، هو تكوين الإنسان الملازم له، تدخل فيه الوراثة والتنشئة، ويدخل الفكر حيزًا من الحرية فى مقابل سجن الطبع، لكنّه يبقى مسجونًا بطبعهِ مهما وعى وفكّر «الإنسان حرٌّ فى الفكر سجينٌ فى الطبع».
لقد كان تساؤل توفيق الحكيم الفلسفى صادمًا لى عندما قرأت كتابه «سجن العمر» وفيه يقول: «كل الذى أدريه أنى سأموت وأنا أتساءل: لماذا لم أكن أفضل مما كنت؟، وما هو هذا السجنُ، الذى يحبسنى فيما أكون؟..».
عزلتنا بسبب كورونا ليست سجنًا فى كل الأحوال، لكنها فرصة لتأمل أحوالنا واكتشاف ذواتنا، لكن لا أخفيكم سرًا أن هناك هاجسًا يلح علىّ بقوة وهو: إذا طالت عزلتنا فى بيوتنا أسابيع عدة أو شهورًا، هل سنعود كما كنا قبل انتشار الفيروس؟!..
أنا عن نفسى لا أعلم.