رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فاطمة الصعيدي تكتب: جماليات الصورة في «عرائس السكر» لزيزيت سالم


"عرائس السكر" المجموعة القصصية الأولى للكاتبة زيزيت سالم، لكنها ليست كتابها الأول، فقد سبق هذه المجموعة كتاب "أقلام دافئة" سنة 2013، وديوان "أبجدية عشق"2015، ونصوص "من شرفة المنتهى" 2016.

يتضح أن الكاتبة زيزيت سالم تجرب طاقاتها الإبداعية في ألوان متعددة من الكتابة النثرية والشعرية، وأنها تمتلك قلمًا مرنًا مطاوعًا دافئًا يعبر عما تريد، تشير عناوين أعمالها السابقة إلى مبدعة تبحث عن أبجدية أخرى هي أبجدية عشق تساعدها في رحلة البحث عن نصوص في شرفة المنتهى، وكأنها تعيد اكتشاف الحياة، وتعيد ترتيب أوراقها من جديد. هل تريد زيزيت سالم رسم جمال تفتقده، فلجأت إلى الكتابة، لتبث قيمها التي تحرص عليها في ظل عالم يموج بالصراعات، فتكون الكتابة هي طريق الخلاص. طريق ترى فيه إحياءً للجمال.

صدرت مجموعة "عرائس السكر" عن دار السعيد للنشر والتوزيع عام 2018، تتضمن هذه المجموعة سبعًا وعشرين قصة قصيرة، تبحث فيها زيزيت سالم عن المعاني النبيلة التي لا تموت، وقد ألمحت إلى ذلك في الإهداء الذي تصدر المجموعة، فنجدها تقول:" إلى المعاني النبيلة التي لا تموت .. تجسدي فينا، لنرث الأرض حتى الخلود" نراها في الإهداء لا ترضى ببقاء المعاني النبيلة في عالم المُثل، ولكنها تطلب من تلك المعاني الراقية التي قد تكون موجودة فينا بالقوة أن تتجسد بالفعل؛ لتصبح واقعًا معاشًا حتى نكون جديرين أن نرث الأرض حتى الخلود. تظهر رؤية زيزيت سالم منذ مطلع الخطاب، هذه الرؤية التي تعتمد على نشر القيم العليا، وهذه القيم لا يليق بها التقريرية والإنشائية، فلجأت السيدة زيزيت سالم إلى البنية المجازية التي تتخذ من التشخيص والتجسيد طريقًا إلى المعاني النبيلة، وهنا يبدو المدخل الأساسي لقراءة القص في عرائس السكر.

تظهر البنية المجازية منذ مطلع العنوان، فلقد اختارت الكاتبة زيزيت سالم عنوان " عرائس السكر" وهو عنوان إحدى قصصها أيضًا، وفي هذه القصة تكشف الكاتبة تفسيرًا للعنوان على لسان إحدى الشخصيات، تقول: " ما أغباكِ، أنتِ لستِ سوى لعبة، سمحتُ له أن يلهو بها تحت عيني.. فكل شئ أعلمه منذ البداية، ولا أسمح له أن يعاشر أي واحدة منكن أكثر من ثلاثة أشهر على الأكثر..كعرائس السكر، مصنوعات من أجل اللهو فقط، وعندما يؤكلن يذبن سريعًا دون أن يتركن أي أثر" ص31:30

إن المركب الإضافي " عرائس السكر" هو إشارة مجازية واضحة لهؤلاء النسوة اللاتي يكن للتسلية، وهو كناية عنهن، فالعنوان إشارة لغوية مهمة عن بعض ما تحتويه المجموعة من هذه الأنماط من النساء، وقد يكون مجازًا عن الحقيبة المملوءة مالًا في قصة " جائزة الشيطان"، وقد يكون إشارة إلى ضياع فرصة أو فقدان أمل مثل قصة " أحلام على الموقد"، وقد يكون مجازًا لتأجيل حلم مثل قصة " فيولينا "، وقد تكون خيالاتنا التي تجسدها الرؤيا في المنام كما في قصة " حراس السماء"، فالسكر مادة تذوب ويمحى أثرها؛ لأنها تحل في المواد ولا يبقى منها أثر، تستدعي كلمة( السكر) حاسة التذوق التي سرعان ما يختفي الطعم بعد مروره من الفم، إذن هي متعة حسية مؤقتة. وهذا يتوافق مع ما أوردته القاصة في قصصها داخل المجموعة.

لصوت السين دلالة مهمة في العنوان، أحدث تكراره في نهاية الكلمة الأولى "عرائس"، وبداية الكلمة الثانية "السكر" نوعًا من الموسيقى، إذ تردد ثلاث مرات، يحمل صوت السين عدة صفات، فهو صوت أسناني لثوي مهموس احتكاكي مرقق، فالصوت المهموس ليس له صدى عند النطق به، و كأن عرائس السكر يزول أثرها ولا يتبقى منها شئ وسرعان ما تتلاشى. و صوت السين من أصوات الصفير يكون خافتًا ويكون ممتدًا أيضًا، لعله يشير إلى تلك الأشياء التي قد نسعى إليها رغم عدم جدواها ظنًا منا أن فيها سعادتنا، تزول هذه السعادة المؤقتة ويبقى الإحساس المؤلم ممتدًا.

تقسم القاصة زيزيت سالم مجموعتها القصصية " عرائس السكر" إلى ثمانية أقسام، يتكون كل قسم من مجموعة من القصص قد تكون أربع قصص كما في القسم الأول والثاني والثالث والخامس، وقد يحتوي على ثلاثة قصص كما في القسم الرابع والسادس والسابع، وقد يحتوي على قصتين كما في القسم الثامن من المجموعة.

المفتتح: المضمون والدلالة
يتصدر كل قسم مفتتح، تتضمن هذه المفتتحات المضامين الفكرية والوجدانية التي تضمها القصص، وإن جاءت بعض هذه القصص مخالفة للمفتتح في بعض الأحيان، مثل قصة" شبهات" التي ابتعدت كثيرًا عن المدخل الذي اندرجت فيه.إنني أرى في هذه المفتتحات رغبة الكاتبة في إظهار ما تمتلك من آراء في صور كتابية متعددة، فربما ابتعدت عن إيرادها في القصص حتى لا تعيق تدفق السرد بمقولات تبدو وكأنها صيغ محفوظة.

تتجلى الثنائيات في جمل المفتتح، فالدنيا فيها الوفاء، وفيها الحيانة، فالمحبة تجبر الخيانة على التواري تحت الثرى، فالوفاء يزهر ويتضاعف، أما الخيانة فتموت في مكانها. تقول زيزيت سالم: " يزهر الوفاء سنابل من محبة؛ فتتوارى تحت الثرى بذور الخيانة".

تتكرر هذه الثنائيات الضدية في أكثر من مفتتح، فنجدها تقول: " تحت وطأة الإرادة تنطفئ جمرة الضعف، فتشرق شمس المجد".



وتقول أيضًا: " من بين سحب الوهم السوداء يبرق اليقين كوجه القمر".

وتقول زيزيت سالم أيضًا: " تحت جناحي الشك ترقد ثقة تؤذن في الروح نجاة".

تشير هذه الثنائيات إلى صورة من صور المجاز المتمثل في التضاد الذي يظهر تلك المتناقضات الموجودة في حياتنا، فالحياة حافلة بصور من التمرد والخنوع الذي ترصده زيزيت سالم في قصصها.

تقدم القاصة زيزيت سالم نموذج المرأة القوي الذي يبحث عن حرية حقيقية، وهي بذلك تنتصر للذات المؤنثة الباحثة عن كينونتها، الساعية إلى تحقيق ذاتها، نجد هذه الروح المتمردة موجودة في زوايا القص، فنجد قولها:
" أعطني حريتي، فأنت لا ترى سوى نفسك، إن لم أفعل كل شئ بطريقتك فأنا عاصية، إن لم أتكلم بلسانك فأنا متمردة، مللت كوني متهمة تدافع عن نفسها على الدوام، لم أعد أحتمل."ص39
وقولها أيضًا:
" أجبرتني على عمل مالا أحب، اخترت لي مسارًا لطريق لا يناسبني، أحببت ما أعمل حتى تفوقت فيه، والآن أريد أن أعمل ما أحب.
- هل تتمردين عليّ؟
تنفعل ويعلو صوتها.

- إنما أتحرر من قيودك التي أوردتني إلى الجنون، تصرفاتي كلها واضحة لأكسب ثقتك فتفتش ورائي، أردد كل الحقيقة فتزيفها، ماذا أفعل لأرضيك؟"ص38

تقتنص زيزيت سالم لحظات القص المشحونة بالتمرد والضعف التي تمر بها بطلات قصصها، تنوب اللغة المجازية في تصوير هذه المواقف ممثلة في الأفعال التي تكون الوسيط في هذا الرصد.

حضور الساردة :
تقول القاصة زيزيت سالم:" لا لن أصمت، سأجبر لحن الغياب أن يكون مسموعًا في خضم الوجع، لن أنتمي إلى زمان يدفن الفراق في صمت، ويواريه دون ندم." ص122

تتضمن الفقرة السابقة وظيفة السارد كما تراها زيزيت سالم، أن وظيفة الكاتب هو التعبير الجمالي عن هذه المواقف الإنسانية التي يستطيع من يمتلك القلم والروح التعبير عنها، نلاحظ الاستخدامات المجازية التي وردت في النص السابق:
- سأجبر لحن الغياب أن يكون مسموعًا.
- لن أنتمي إلى زمان يدفن الفراق في صمت.

تقرر زيزيت سالم أنها لن تصمت، وبالتالي سوف تجبر لحن الغياب إلى التجلي نصوصًا تصور فيها أوجاع النفوس وآلامها، لهذا فإنها ستلجأ إلى الكتابة التي تتناسب مع ما تنتمي إليه: ثقافة الصور المجازية: "لن أنتمي إلى زمان يدفن الفراق في صمت".


الاستهلال المجازي في عرائس السكر
تستهل زيزيت سالم قصصها بالتصوير المجازي الذي يعد المدخل للقص، ولا أبالغ إن قلتُ: إن هذه الجمل الافتتاحية تحمل مضمون القصة، ومن نماذج الاستهلال المجازي:
- "لم تجد سوى دموعها تلتحف بها، كان يكفي أن يرقد بجانبها ولو أدار لها ظهره" ص9

- "تمر على سطحها الأملس بأناملها التي زحف عليها الزمن فينهمر سيل الذكريات كطوفان يجرف كل ما يعترضه ويغرقه في الحنين" ص35

- "يدوي الهاتف في منتصف الليل، كل دقة لها دوي يوقظ النائم في كهف الأحلام" ص45

-"فاضت مقلتاها بالدموع، فابتلت وسادتها بالحزن، إنه الكابوس الذي أسدل ستائره عليها تلك الليلة، لإخفاء سعادة قريبة أو شقاء قادم" ص51

- "في حديقة القصر ومن فوقها الشمس حانية، تحيط بهما الأشجار الوارفة ونسائم الزهور العطرة، بينما تتقافز الطيور من حولهما مغردة ألحانًا عذبة" ص57

- "ترسل الشمس أشعتها على قلوب الطيبين، تعانقهم بدفء يجبر الخواطر وسكينة تغمر الأرواح، إلا قلبي أنا احتله البرد والخوف." ص65

- "امتطيت فرسي وانطلقت نحو غابة الأساطير أبحث عن شجرة عملاقة، أقتفي أثرها في أحلامي" ص69.

-"تميل الشمس إلى المغيب وتتواري ابتسامتها البرتقالية خلف الأفق على استحياء، بينما تتهادى سيارة سوداء اللون على الطرقات" ص107.

-"أترك لقلبي العنان أن ينقبض أو ينشرح، فأؤخر خطوة أو أتقدم إلى الأمام خطوات" ص111.

- " هناك أمام شاطئ البحر، ترقد بجواري حقيبة ممتلئة بملابسي وبعض أشيائي، إذ يتلون البحر بلون أفكاري وهمومي، فأحيانًا أراه أزرق بلون الرضا، وقد يصير أخضر بلون الصبر، ونادرًا ما يكون فيروزيًا بلون الأمل، وإن احتواني اليأس أراه رماديًا بلون الحزن، وفي المساء يفترش الأسود بلون الانتظار"ص23 .


تشير النماذج السابقة إلى ملمح أسلوبي مهم هو الاحتفاء بالصور المجازية المتمثلة في الاستعارة والتشبيه والكناية، وإن دلّ هذا على شئ فإنه يدلّ على انتماء القاصة لعصر الاحتفاء بجماليات اللغة، التي لم تخل بتقنيات القص، ولكن بعض المتلقين قد يرون في الاستخدامات المجازية الموجودة عبئًا على النص القصصي.

تبدو في النماذج السابقة عناصر الصورة الجمالية المعتمدة لى الصوت والحركة، نكاد نسمع صهيل الفرس ووقع خطواته، نرى الشمس بابتسامتها البرتقالية، فنشعر بشجن الغياب ونقتنص دفئًا هاربًا معها، نرى تداخل ألوان الأفق وقت المغيب، ونرى مشهدًا كليًا للطبيعة عند وصف الحديقة.

إن اللوحة البديعة التي ترسمها زيزيت سالم للبحر لوحة مزجت فيها الطبيعة وألوانها بخبرتها الحياتية ولونت الشخصية القصصيىة البحر بمشاعرها المضطربة المتلاطمة تلاطم أمواج البحر، وهو تصوير بديع للكاتبة ينم عن روح مبدعة شفافة تجيد قراءة نفوس البشر.

العالم الغرائبي في عرائس السكر
في أحد أقسام المجموعة تقدم القاصة زيزيت سالم أربعة قصص هي: أطياف، كش ملك، مدينة الدمى، شجرة آدم. هذه القصص شيدت عالمًا موازيًا اتخذت من الخيال مادة لتشيده، تقول في المفتتح الذي يسبق تلك القصص: " لنا في الخيال واحة من عشب أخضر تتألق كملايين الأحلام" في هذه القصص تنطلق نحو غابة الأساطير لتبحث عن شجرة عملاقة أوراقها من ذهب، أرى أن هذا البحث لم يكن إلا رحلة القاصة في الإبداع، هو رحلة بحث عن ذات تتوق إلى الحرية والجمال.

مجموعة" عرائس السكر" نصوص تنتصر للجمال اللغوي والأداء المجازي، وهي تقدم رؤية السيدة زيزيت سالم للحياة بكل تناقضاتها في أسلوب رشيق يعيد ترتيب الحياة من جديد، فالكتابة وسيلة من وسائل التغيير والمراجعة.

*أستاذ علم اللغة آداب حلوان