رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لا شىء يهزم الإنسان


سيهزم الأمل والأغانى كل وباء مهما كان خطره، هذا تاريخ الإنسانية وإرادتها التى لم تنكسر قط. وما من معركة إلا وانحسرت فيها الأوبئة مهزومة وخرج الإنسان منها ظافرًا على وقع الأغانى والأمل، وليس «كورونا» الأول وقد لا يكون الأخير، فقد تعرض العالم ومصر فى العهد العثمانى لطاعون عام ١٥٢٤، وفتك الوباء بثلث سكان القاهرة التى فقدت وحدها أكثر من ستين ألفًا من أبنائها، وفقد العالم نحو ٧٥ مليون نسمة، ولم يحطم الموت إرادة الحياة ولا التفاؤل بالدنيا والوطن.
وهاجم وباء الكوليرا مصر عشر مرات فى تاريخها الحديث، بدءًا من ١٨٣١ وانتهاء بالمرة الأخيرة عام ١٩٤٧، وفى المرة الأولى حاول كلوت بك، مؤسس مدرسة الطب الحديثة التصدى له مع تلاميذه، لكنه قتل نحو مائة وثلاثين ألف نسمة، وحين رجع «الكوليرا» عام ١٨٨٣ رجع من عند مولد الشيخ أبوالمعاطى بدمياط، مما أدى لوفاة ١٥ ألف إنسان، وخارج مصر أودى بحياة الملايين، حتى تمكن الطبيب البريطانى جون سنو من التوصل لكيفية الحد من انتشار الوباء. وظهرت وباء الإنفلونزا الإسبانية بين ١٩١٨ و١٩٢٠، وكان من أشد الأوبئة دموية، إذ مات فيه نحو خمسين مليون شخص فى العالم، وبلغ عدد الوفيات فى مدينة فيلادلفيا الأمريكية ألف شخص يوميًا.
وظهر بعد ذلك عام ١٩٦٨ وباء إنفلونزا عرفت بـ«إنفلونزا هونج كونج»، وبلغ عدد ضحاياه نحو مليون، ثم إنفلونزا الطيور عام ١٩٩٧، وإنفلونزا الخنازير فى ٢٠١٠ الذى أصاب نحو ستين مليون نسمة فى أمريكا، ثم وباء «إيبولا» عام ٢٠١٦، الذى سمى على اسم نهر قريب من المنطقة التى تفشى فيها فى غينيا.
وفى يوم من الأيام كان الجدرى وباءً، والسل مرضًا عجز العلم عن التصدى له! لكن الإنسان خاض كل تلك المعارك، مرة بعد أخرى، ولم ينهزم قط، ولا مرة، كان يخسر قليلًا، لكنه يحشد قواه وينتصر، ويعكف على البحث العلمى، ويخترع، ويفكر، ويكتب، ويغنى، ويواصل البقاء عاشقًا، وشاعرًا، ومنشدًا، وطبيبًا، لا شىء يهزم الإنسان، قد يكون المخيف فى الأوبئة أنها غير مرئية، تبدو مثل عدو خفى، كما أنها تطوق العالم بشكل جنونى.
ومع ذلك، فإن العلم الذى قفز قفزات هائلة قد تمكن دومًا من التصدى لها، ومن حماية الحياة على كوكبنا، وهناك بالفعل أنباء متناثرة هنا وهناك، وإن لم تكن نهائية عن بدايات تجارب للعثور على مصل أو لقاح ضد فيروس «كورونا»، وشتان بين وضع العلم الآن وبين وضعه منذ خمسمائة عام حين انتشر الطاعون فى مصر، واعتقد العثمانيون أنهم سيتخلصون منه بقتل الكلاب فى القاهرة وتعليقها أمام الحوانيت. وربما يكون فيروس كورونا إنذارًا للبشرية بضرورة إعادة ترتيب أوضاعها، بحيث يصبح للعلماء والأطباء الصدارة من حيث الأجور والاهتمام والتقدير، بدلًا من لاعبى الكرة ونجوم الأغانى الخفيفة، أو على الأقل مع أولئك النجوم بالقدر نفسه.
المؤكد أن الإنسانية ستخرج من هذه المعركة منتصرة، حتى لو كانت مثخنة بالجراح، وستواصل رحلتها إلى الأمام، نحو اكتشاف الكون الواسع، والتشبث بالفن والشعر والأغنيات والحب طريقًا وحيدًا للوجود، لا شىء، ولا أحد سوى الشعراء والعلماء والأطباء والفنانين والمعلمين فى المدارس هم من ستهبهم الأرض قلبها الآن، ومعهم ستمضى إلى عالم آخر تصحبها الأغنيات المفرحة، وعلى الطريق سيهزم الورد كل الأوبئة، وستزيح الأغانى كل جائحة، هذا ما يشهد به تاريخ الإنسان، الذى كلما ثارت عليه الطبيعة جرها إلى طريق الحياة والنمو والازدهار، لم يهزم الإنسان من قبل، ولن يهزم الآن.