رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«كورونا».. التحدى الصعب لأمننا القومى


حصيلة الوفيات بـ«فيروس كورونا المستجد كوفيد- ١٩» بلغت ٧٨٦٥ شخصًا، من بين ١٩٦ ألفًا على مستوى العالم حتى منتصف مارس الجارى.. الوباء لم يميز بين دولة عظمى كالصين «٣٢١٣ حالة وفاة»، وأخرى ضمن العالم النامى كإيران «٢٣٨٤ حالة»، وثالثة أوروبية متقدمة كإيطاليا «٢١٥٨ حالة».. عدد الدول التى رصدت حالات إصابة بالمرض تجاوز ١٠٠ دولة، بينها دول إفريقية من جنوب الصحراء، وأخرى أوروبية مطلة على القطب الشمالى.. معظم الدول الموبوءة أغلقت حدودها البرية ومنافذها الجوية والبحرية.. الجميع نجح فى تشخيص المرض، ولكن لا أحد منهم يمتلك دواء لعلاج المصابين، أو مصلًا لتحصين المخالطين.. رئيس وزراء بريطانيا خرج محذرًا: «استعدوا.. فالمزيد من العائلات ستفقد أحباءها».. إذن كل المؤشرات تؤكد أن أزمة «كورونا» قد انتقلت بالفعل من كونها أزمة صحية إلى تحد موجه للأمن القومى لدول العالم، ما قد يبرر نشأة التفسير التآمرى لفكرة تخليق الفيروس.
مصر اكتشفت أول حالة إيجابية حاملة لـ«كورونا» داخل البلاد لشخص «أجنبى»، أعلن عنها بكل شفافية فى بيان مشترك لوزارة الصحة والسكان المصرية ومنظمة الصحة العالمية ١٤ فبراير.. الرئيس عبدالفتاح السيسى بادر بتكليف وزيرة الصحة بالتوجه إلى بكين أول مارس، فى لفتة تعكس عمق رؤية القيادة السياسية وسرعة مبادرتها، وتحسبها المسبق للتعامل مع الأزمة.. الوزيرة عادت بالوثائق المستهدفة، التى تتضمن الوثائق الفنية المشتركة لكل من منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة الصينية عن سياسات مكافحة «كورونا»، وتفاصيل الجهود المبذولة، والإجراءات الوقائية لمواجهتها.
فور اكتشاف أول حالة لمصرى يحمل «كورونا» أعلن عنها ببيان مشترك أيضًا فى ٥ مارس.. ثم تم اكتشاف عدد من المصابين على متن باخرة سياحية خلال رحلتها بين الأقصر وأسوان فى نهر النيل، وتم عزلها بكل من عليها فى ٧ مارس.. وزراء الصحة والسياحة والطيران هرولوا فى اليوم التالى «٨ مارس» لزيارة معابد الكرنك بالأقصر لطمأنة السائحين، خشية تأثر الحركة السياحية، ودعوا لعدم المبالغة فى ردود الأفعال حيال ما تم رصده من حالات حاملة لـ«كورونا».. إجراء مثير للدهشة، يفرض المساءلة، ويطرح التساؤلات بشأن سلامة الرؤية والقدرة على ترتيب الأولويات.
كان واضحًا منذ البداية أن «كورونا» يستهدف حركة السياحة والسفر، ومؤسسات التعليم والإنتاج وحتى التجارة الدولية، وأنه لن يهدأ قبل أن يوقفها.. دعوت فى «تويتة» بالغة الوضوح والاختصار يوم ٩ مارس، إلى أن نرتب أنفسنا لكل ذلك، حتى لا نُجبَر على تنفيذه تحت ضغط فداحة الخسائر.. لكن وزير التعليم استبعد يوم ١٠ مارس أى تفكير فى تعليق الدراسة مبررًا بـ«أنه ليس قرارًا عبثيًا، فهو يعطى رسالة إلى العالم الخارجى بأن هناك وباء، وهذا غير صحيح»!!.. قبل مرور ٤٨ ساعة على تصريح الوزير أغلقت وزارة الصحة مدرسة دولية بالزمالك فى قلب العاصمة، وفرضت عزلًا ذاتيًا على طلابها والمعلمين والإدارة المدرسية لمدة ١٤ يومًا.. وقبل مرور ٤٨ ساعة أخرى تدخلت القيادة السياسية بخطة مواجهة استراتيجية متكاملة لـ«كورونا»، تتضمن تعليق الدراسة فى المدارس والجامعات، وتعليق حركة الطيران فى جميع المطارات المصرية، وتخصيص ١٠٠ مليار جنيه لتمويل الخطة.. لولا ما تملكه الرئاسة من عمق فى الرؤية، وقدرة على اتخاذ القرار، لما أشادت منظمة الصحة العالمية بالطريقة التى تعاملنا بها مع «كورونا»، ولما تم اعتبارنا واحدة من دولتين فقط فى المنطقة تمتلكان «نظام مراقبة قويًا يعتمد على الأحداث».

الوباء لا يكتفى بحصد أرواح البشر، بل بتخريب الاقتصاد، ما يفرض على كل العاملين ضمن الخطة القومية للمواجهة، معرفة خطورة انعكاساته على الاقتصاد العالمى، الذى نحن جزء منه، وما أحدثه من خلل فى أسواق التجارة الدولية والطاقة والعملات والسلع والمواد الاستهلاكية والإنتاجية والطيران وغيرها.. فإجراءات المواجهة تفرض تقييد الأنشطة العامة فى القطاعين الحكومى والخاص، بكل ما لذلك من انعكاسات سلبية على الاقتصاد. الخسائر التى لحقت بحركة التجارة الدولية خلال شهر فبراير وحده، قد تتجاوز ٥٠ مليار دولار، خاصة فى صادرات الصناعات التحويلية. فالدور المهم الذى يلعبه الموردون الصينيون فى إنتاج الشركات بكل دول العالم، يعنى أن أى أزمة يتعرضون لها تنعكس خارج حدودهم.. تدابير احتواء الفيروس منذ منتصف ديسمبر الماضى تسببت فى انخفاض غير مسبوق فى إنتاج الصين، المتضرر الأكبر، يتوقع معه تراجعًا بنسبة ٢٪ عن المعدل السنوى، أضرار الاتحاد الأوروبى «١٥.٥ مليار دولار»، والولايات المتحدة «٥.٨ مليار» واليابان «٥.٢ مليار»، والدول المصدرة المواد الخام أكثر تضررًا.. الاستثمارات الخارجية فى أوروبا هبطت ٤٠٠ مليار دولار، والخسائر الشاملة للاقتصاد العالمى تتجاوز ٣٠٠ مليار.. هذه الأرقام مرشحة للزيادة وفقًا لتطور حالة الوباء، خاصة أن إجراءات المكافحة معادية بالضرورة لأدوات إنعاش الاقتصاد، وتلك هى المعضلة، ما يفسر عزم المنظمات الدولية والمؤسسات المالية على دفع حزم تحفيزية لاقتصاديات الدول المتضررة. صندوق النقد الدولى دفع ٥٠ مليار دولار، والولايات المتحدة خصصت حزمة تمويل ٥٠٠ مليار، والصين تضخ قرابة ١٧٣ مليارًا، لتواجه المؤسسات الأزمة الراهنة.
الانعكاسات السلبية لـ«كورونا» على قطاع النقل الجوى للأفراد بالغة الخطورة.. فتأثيره لا يمكن مقارنته بعواقب «سارس» ٢٠٠٣ فى الدول الآسيوية، الذى سجلت خلاله شركات النقل الجوى تراجعًا ٥٫٣٪.. «كورونا» هو الأسوأ منذ الأزمة المالية العالمية ٢٠٠٩، التى تراجع خلالها عدد المسافرين جوًا حول العالم بنسبة ٣٥٪.. الاتحاد الدولى للنقل الجوى «IATA» توقع فى ديسمبر ٢٠١٩، أن يشهد القطاع نموًا بنسبة ٤٫١٪ خلال ٢٠٢٠، ولكن عندما اجتاح الوباء الصين، تواضعت التوقعات، وقدر فى فبراير حدوث تراجع بنسبة ٤٫٨٪، وأنه سيكون أكبر عام يشهد فيه قطاع النقل الجوى تراجعًا منذ الأزمة المالية العالمية، مما سيكبد شركات الطيران خسارة تقدر بـ٢٩٫٣ مليار دولار.. بعد اجتياح الوباء إيران وإيطاليا، ثم انتشاره بشكل وبائى فى أوروبا والعالم، وبدء فرض حظر على الحركة الدولية للطيران عبر الأطلسى وفى أوروبا والولايات المتحدة، أعاد الاتحاد تقدير الخسائر، وأكد أنها قد تتجاوز ١١٣ مليار دولار.. عزاؤنا أن الأشهر التالية للأزمات تشهد نموًا سريعًا قد تتجاوز به المعدلات السابقة. شركات الطيران البريطانية حذرت من أن قطاع الطيران لن ينجو من «كورونا» دون دعم مالى ضخم، وذلك قبل أن تعلن شركة «Flybe» البريطانية انهيارها، وتسرح قرابة ٢٠٠٠ موظف بعد الخسائر التى لحقت بها منذ مطلع العام الحالى، وفشل خطة الطوارئ الحكومية فى إنقاذها، هذه الشركة تسيِّر ٤٠٪ من الرحلات الجوية الداخلية فى بريطانيا، وهى واحدة من أكبر وأشهر شركات الطيران الأوروبية.. شركة «كاثى باسيفيك» فى هونج كونج، التى تضررت من الاحتجاجات الداخلية لأشهر عديدة، عطلت ١٢٠ طائرة من أسطولها الذى يبلغ ٢٠٠ طائرة، وألغت ٧٥٪ من رحلاتها، ومنحت «٢٧ ألفًا» من موظفيها إجازة غير مدفوعة ثلاثة أسابيع.. شركة الطيران الألمانية «لوفتهانزا» أوقفت رحلاتها إلى الصين حتى ٢٤ أبريل، وإلى طهران حتى ٣٠ منه، وخفضت رحلاتها لإيطاليا، وأوقفت ٢٣ من طائراتها. إجراءات مواجهة «كورونا» كتعليق رحلات الطيران، وتعطل المصانع، وإغلاق الحدود، أدت إلى تراجع الطلب على الطاقة، ما أسهم فى انهيار أسعار النفط، خاصة أنها تزامنت مع قرار روسيا بالانسحاب فى ٩ مارس من «تحالف أوبك+» الذى تم تشكيله ٢٠١٦، بعد رفضها طلب السعودية تخفيض عمليات الضخ للأسواق بـ٣.٦ مليون برميليوم بدلًا من بـ٢.١ مليون برميل، باعتباره فى صالح منتجى النفط الصخرى الأمريكى، وإعلانها أن الدول يمكنها أن تنتج كما يحلو لها ابتداء من ١ أبريل، وذلك إشهار علنى بوفاة التحالف.. تداعيات هذا التطور بالغة الخطورة على اقتصاديات الدول المنتجة للنفط فى العالم.
أما على صعيد اقتصاديات السياحة فى العالم فالوضع «كارثى»، لأن الطلب على البرامج السياحية توقف، والحجوزات تتعرض للإلغاء، الشركات والمكاتب السياحية والفنادق وشركات النقل مقبلة على الإفلاس، مما يفسر المبادرة الألمانية لمساندة القطاع ببرنامج قروض ميسرة بدأ بـ٢٠ مليار يورو، وتم رصد نصف تريليون لاستكماله حتى زوال الأزمة.
مصر خلال فبراير استقبلت ما يقرب من ٩٠٠ ألف سائح بزيادة ٤٪ عن نظيره عام ٢٠١٩، وخلال الأسبوع الأول من مارس الجارى زارها نحو ٢١٠ آلاف سائح، وتلك معدلات طبيعية، ولكن مع انتشار الفيروس، تراجعت الحجوزات بنسبة ٧٠٪-٨٠٪، والوضع قد يسوء مع فرض الطوارئ الصحية وإغلاق المنافذ، الحكومة شكلت لجنة مشتركة من القطاعين الصحى والسياحى فى حالة انعقاد دائم لمواجهة الأزمة، ولكن عليها أن تدرك أن أى جهود تنشيطية فى الخارج إبان الأزمات لا تحقق أى عائد، وربما أتى بالنقيض.. هى فرصة لمراجعة كفاءة المنشآت والتجهيزات، والاستعداد لذروة سياحية جديدة تعقب انتهاء مثل هذه الأزمات، وهو ما حدث بعد حرب تحرير الكويت ١٩٩١، وأحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١، وأثناء أزمة «سارس» ٢٠٠٣، والأزمة الاقتصادية العالمية ٢٠٠٩.
«كورونا» تحدى أمن قومى، موجه للبشر والدولة والاقتصاد وكل مناحى الحياة، لكن مواجهته لن يقدَّر لها النجاح دون تآزر المجتمع والحكومة، تلك قضية وعى جمعى، وسلوك حضارى ملتزم، ومهنية إعلام وطنى وكفاءة إدارة أزمة، فهل ننجح فى توفير ذلك الرباعى المقدس؟!