رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الناس والوباء.. العصر المملوكى


انتشار الأوبئة من أخطر الأزمات التى تمر بها البشرية عبر التاريخ، ولا يقتصر انتشار الوباء على عصور الضعف، ولا يفرق بين دولة كبرى ودولة صغيرة، ويعتبر العصر المملوكى من أزهى عصور القوة والازدهار الحضارى فى تاريخ مصر الإسلامية.
إذ يتميز هذا العصر بأن القاهرة أصبحت عاصمة لدولة كبرى تشمل مصر وبلاد الشام والحجاز، وهو عصر الموسوعات الكبرى، وأهرامات العمارة الإسلامية، مثل جامع السلطان حسن والبيمارستان.. ولعل خير دليل على هذه العظمة ما قاله المؤرخ الكبير «ابن خلدون» عندما جاء إلى مصر وتحدث عن القاهرة قائلًا: «رأيت حاضرة العالم وإيوان الإسلام».
لكن هذا العصر، الذى امتد عدة قرون، شهد أيضًا العديد من الكوارث الطبيعية التى عانت منها مصر، وحوض البحر المتوسط أحيانًا، وتمثلت هذه الكوارث فى الأوبئة والمجاعات.
ويرصد قاسم عبده قاسم، فى كتابه المهم «دراسات فى تاريخ مصر الاجتماعى فى عصر سلاطين المماليك»، ما يقرب من سبعين وباء أو مجاعة عبر تاريخ المماليك، ومن الملاحظات المهمة فى هذا الشأن الارتباط الشديد بين الوباء والمجاعة، فالوباء يؤدى بعد ذلك إلى مجاعة نتيجة الأزمات الاقتصادية المصاحبة له، وكثرة الوفيات، وبالتالى عدم وجود قوة عاملة وانهيار الزراعة والحرف.. والعكس صحيح أيضًا، فمع حدوث المجاعة وكثرة الوفيات، والدفن بطرق غير صحيحة، فضلًا عن أكل القطط والكلاب، وحتى لحم الأموات من البشر، يؤدى ذلك إلى وقوع الوباء، وهذا ما دفع أهم مؤرخى مصر الإسلامية «المقريزى» إلى وضع كتابه الشهير والفريد «إغاثة الأمة بكشف الغمة».
ومن الملاحظات المهمة فى هذا الشأن، أيضًا، أن الأمور الصحية، وكذلك التعليمية، لم تكن من مهام الدولة فى العصور الوسطى، على عكس الدولة الحديثة التى تعتبر هذه الأمور «أمورًا سيادية» بالنسبة لها، لذلك لم تعرف العصور الوسطى ما نعرفه الآن من دور الدولة فى تطبيق الإجراءات الوقائية، أو عزل المصابين والحجر الصحى، أو إغلاق المناطق الموبوءة، وغير ذلك من وسائل الدولة الحديثة.
ويتسم العصر المملوكى بالتفسير الدينى للكوارث الطبيعية، فيتم تفسيرها تفسيرًا دينيًا وأخلاقيًا خالصًا، إذ نُظِر إلى هذا الأمر على أنه غضب من الله تعالى نظرًا للبُعد عنه، وانتشار الفجور والمظالم.
ويُروى أنه فى زمن السلطان برسباى انتشر الطاعون، وخاف السلطان على نفسه، وأراد التقرب إلى الله حتى يحفظه من شر الوباء، فجمع المشايخ وسألهم عن أسباب الطاعون، فقالوا إن الزنا إذا تفشى بين الناس ظهر فيهم الطاعون، وإن النساء فى مصر يمشين فى الطرقات ليلًا نهارًا بزينتهن، وأشار بعضهم إلى ضرورة منع النساء من المشى فى الأسواق، وبالفعل أمر السلطان بمنع النساء من الخروج تمامًا حتى يرفع الله الوباء عن البلاد.
وفى بعض الأحيان كان بعض السلاطين يقوم بإجراءات اجتماعية مهمة، ربما الدافع الأساسى لها التقرب إلى الله، ولكن مردودها الاجتماعى كان ملحوظًا فى الأزمنة الصعبة، فعلى سبيل المثال أمر السلطان برقوق بألا يُحبَس أحد بسبب ديونه، وأطلق سراح المسجونين.
ومن الظواهر الطريفة فى أزمنة الوباء انتشار أشعار الخلاعة والمجون، واغتنام ما تبقى من العمر فى ملذات الحياة، فالموت قادم.. قادم، ومن هنا جاء المثل الشعبى «إحيينى النهارده وموتنى بكره»!