رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التحدى والاستجابة


تمر كل شعوب الدنيا بلحظات فارقة فى تاريخها، تواجه خلالها تحديات على درجة عالية من الخطورة، تستخرج خلالها كل مكنون طاقاتها، وتُبرز من أعماقها الدفين من ضروب البطولة وآيات الشجاعة، وتفعل ما قد يبدو فى غير هذه الأوقات اجتراحًا لمعجزات عز نظيرها، وقل أن يكون لها مثيل.
وقد عايشنا، فى جيلنا، لحظات عديدة من مثل هذه اللحظات الخالدة، ومنها لحظة الصمود فى وجه العدوان الثلاثى الغشيم، الذى شنته الإمبراطوريتان الاستعماريتان: البريطانية والفرنسية، مع حليفتيهما إسرائيل، على مصر عام ١٩٥٦، عقابًا لها على تأميمها قناة السويس، التى شقها على أرض مصرية ومات فى حفر مجراها عشرات الآلاف من المصريين. وكان صمود الشعب المصرى، مع التباين الكبير فى موازين القوى، واجتماع أمره حتى هزيمة العدوان، بل حتى تحلّلت الإمبراطوريتان، وانتهى أمرهما، لما يُضرب به المثل فى العالم أجمع.
ثم عشنا فى جيلنا ملحمة البطولة والفداء مرة ثانية، مع هزيمة ٥ يونيو ١٩٦٧ التى تم خلالها تدمير كل مقومات الجيش المصرى، وأسلحته، وآلياته، وتشتيت عناصره، وتحت نيران العدوان الصهيونى الهمجى المستمر، الذى استهدف تخريب وتدمير المدن والمصانع والمدارس والبنية التحتية، لكسر إرادة شعبنا، وإجبار مصر على الركوع والقبول بالهزيمة، قدم المصريون، شعبًا وجيشًا، ملحمةً بطولية جديدة، حيث أعادوا، بمساعدة الاتحاد السوفيتى، بناء قواتهم المسلحة مُجددًا، تحت القصف الدائم، ودمروا المدمرة الإسرائيلية «إيلات»، وصمدوا فى رأس العش، وشيدوا حائط الصواريخ، ثم انطلقت جحافلهم لكى تعبر الهزيمة، وهو أمر لم يكن أكثر المتفائلين يظنه قابلًا للتنفيذ فى بضع سنوات قليلة فصلت بين يونيو ١٩٦٧ وأكتوبر ١٩٧٣.
ولسنا الآن، ومصر تواجه تحديات هائلة، ذات أبعاد مصيرية خطيرة، تتطلب اجتماع كلمة الشعب المصرى، وبروز إرادته ومضاء عزيمته، بأقل احتياجًا لهذه الروح البطولية مما مضى من أوقات. فأمامنا، اليوم لا غدًا، تحديان هائلان، غير التحديات الأخرى المعروفة، ينبغى الصمود فى مواجهتهما، والتكاتف للانتصار عليهما، هما تحدى وباء «كورونا»، وتحدى سد «النهضة» ونتائجه.
والتحدى الأول، وهو تحدى فيروس «كورونا»، ينبغى مواجهته على الأرض، بالعلم والنظام والتخطيط والالتزام، وبدون تهويل أو تهوين من شأنه وخطورته، والصمود بأقل قدر من الخسائر البشرية لفترة لا أعتقد أنها ستطول، حتى يتم الانتهاء من عملية إنتاج المصل العلاجى، مع العلم بأن بؤرة انتشاره، فى مدينة «ووهان» الصينية، قد شهدت فى الأيام الماضية، ما يشى بأن الصين قد استطاعت السيطرة عليه وعلى امتداداته ونتائجه.
أما التحدى الثانى: تحدى بناء إثيوبيا «سد النهضة»، وما سيترتب على تشييده من تداعيات سلبية تخص نصيب مصر من مياه نهر النيل، التى تمثل شريان حياة المصريين، وسر حضارتهم، وسبب وجودهم، فهو التحدى الأكبر الذى ستمتد آثاره إلى زراعة مصر وصناعتها وغذائها وملبسها ومستقبل ومصير أجيالها، والنجاح فى مواجهة هذا التحدى يستوجب حشد الهمم، وشحذ الإرادة والتخطيط الدقيق لإعادة توجيه الحياة فى مصر باتجاه التعامل الرشيد مع كل قطرة مياه تصلها، والحرص على عدم تبديد رصيدها الغالى والمحدود من المياه فى غير الضرورى، بل البالغ الضرورة من أهداف، وهو أمر يحتاج إلى مشاركة شعبية كاملة، وحيوية سياسية مفتقدة، ومناقشة ممتدة حتى ننجح فى الوصول إلى غايتنا.
وأنهى هذه الملاحظات باستدعاء واجب، لسيرة أحد الأبطال، من أبناء هذا الوطن، الذين ضحوا بحياتهم لإنقاذ الآخرين: الكابتن «أحمد شعبان»، مُدرب رياضة الـ«تاى تشى»، الذى رحل عن عالمنا فى الأيام الأخيرة، بعد أن أنقذ ٢٢ شخصًا من الموت غرقًا، بسبب السيول التى جرفت أحد المعسكرات فى منطقة نويبع، قبل أن يرتطم رأسه بصخرة، ويودع الحياة فى إثرها. فبمثل هذه الروح الفدائية، التى شهدناها مرارًا فى قصص أرتال الشهداء فى الحرب ضد الإرهاب، والتى تجسدها شخصيات تضحى من أجل الغير، وتهب الحياة للآخرين، حتى لو قدمت حياتها ثمنًا لذلك، تنتصر مصر فى معاركها، وتقدم نموذجًا لاستجابة الشعب المصرى لما يواجهه من تحديات، وما يصطدم به من عقبات.