رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحضور والغياب.. في مجموعة "باب مروحة" لأماني الشرقاوي


"باب مروحة" مجموعة قصصية جديدة للقاصة والروائية أماني الشرقاوي، صدرت عن دار المعارف عام 2020، وقد سبق هذه المجموعة مجموعتان هما "إفلاس دولت" 2009، "في محطة مصر" 2013، فضلًا عن الإنتاج الروائي الذي يتمثل في "فساتين النشوة"، "سلمى وأخواتها"، "ترانيم أنثى".

تتضمن المجموعة القصصية تسع عشرة قصة هي: درة، سيدة الكهوف الصفراء، انصهار تحت الجليد، مروق، استفهام.. تعجب، الساعة تن تن، دال نقطة قاف. عين، أوهام، عاد إليها صوتها، وابور جاز، ابتسامة ما، حفلات نحيب، بين قوسين، أطر فارغة، أوتار، باب مروحة، أمل، العودة، طوق عنق. فضلًا عن متتالية قصصية تحمل عنوان "أيام العباءة البيضاء"، وتتكون من ثلاث لوحات: الغاضب 1، الغاضب 2، تسليم.

وفي هذه الثلاثية تسرد مشاهد من رحلة العمرة وكيف تمر السيدة بطلة المتتالية بمواقف تجعلها غاضبة، ويستمر الغضب وكأن التمرد والمعاناة شرطان أساسيان للعودة والتسليم، لتصل في نهاية الرحلة إلى الوجد الذي يحملها إلى السماء الزرقاء، تقول: "يخفت الصخب تدريجيًا، هدوء وسكينة تهيمنان على المكان، حدقتاي تلحقان حروف القرآن.. تتداعى الكلمات من حولي، ويخف الجسد، فلا أستشعر الأطراف، انفصلت عن الحياة." ص33

تشكل الصيغة الصوتية للعنوان إحدى شفرات العمل، فصوت الباء الانفجاري الشديد الذي جاء في مقطعين صوتيين مختلفين في كلمة "باب"، المقطع الأول طويل مفتوح يوحي بهذه الرحلة الإبداعية التي صحبتنا فيها أماني الشرقاوي وصحبناها فيها، أما المقطع الثاني فجاءت الباء في مقطع قصير وكأنها الاستراحة أو الوقفة بعد الرحلة المضنية التي يعيشها الإنسان الذي مر بمغامرات عدة وراء البحث عن تحقيق الهوية، وإيجاد مكان تحت الشمس يستحقه من يبحث عن جوهر الأشياء. فضلا عما يشير إليه الباب من كونه مدخل البيوت الذي دخلتها أماني الشرقاوي راصدة الحكايات التي تتوارى وراء كل باب.

أما كلمة "مروحة" فقد جاءت الصيغة الصرفية على وزن مفعلة، وكأن هذا الباب يكون مطاوعًا لكل من دفعه، لا يحتاج لطرق حتى يفتحه لك أحد، إنما يكفيه منك دفعة بسيطة أو عنيفة حسبما تريد، جاءت كلمة "مروحة" مكونة من أربعة مقاطع صوتية، مقطع مغلق مكون من: حرف الميم وصوت الفتحة القصيرة ثم صوت الراء الساكنة، وكأن هذا المقطع هو لحظة التوقف لفتح الباب، بعدها تتوالى المقاطع القصيرة الدالة على مرونة الباب ومطاوعته. فهو لا يعالجه مفتاح، إنما إرادتك هي التي تحول المغلق إلى مفتوح، يضاف إلى ما سبق أن كلمة "المروحة" آلة، ومن معانيها: "احتاجوا إلى الترويح من الحر بالمروحة، أو يكون من الرواح، أي العودة إلى البيت وطلب الراحة، يقال فلان بمروحة أي بممر الهواء". تشير المادة المعجمية إلى إشارة مهمة أن باب المروحة قد يكون فاصلًا بين عالمين: الضوضاء والهدوء، الفوضى والنظام، فهو يعني التأرجح بين الغياب والحضور، تقول أماني الشرقاوي: "نطفة مترددة بين الاكتمال أو الانسحاق في اللانهائية.. لحظة الخروج من نفق مظلم إلى الضوء الساطع.. صرخة انفصال المتحد من عالم البرزخ إلى عالم الوجود". ص69

إن اختيار المركب الإضافي "باب مروحة" ليكون العلامة الكلية للمجموعة القصصية، حيث تمثل الإرادة المرتكز الحقيقي في القصص الواردة من المجموعة. تعالج أماني الشرقاوي أنماطًا من البشر مثل الزوج البخيل كما في القصة الأولى من المجموعة "درة"، نجدها تقول: "عدت يومًا من عملي مبكرًا، لأجد زوجي قابعًا على الأرض يرص رزمًا من النقود مرصوصة في قاعدة الدولاب المقلوبة من الداخل، ينتابه فزع مفاجئ، وكأني ضبطته مع معشوق سري.

أخرج من الغرفة قبل أن تتلبد سمائي بغيوم الواقعية، فيطلق خمسيانه الملبدة بالغبار حين رآني." ص4،5. كما نجد نمط الأخ المستغل في قصة "وابور جاز، تقول: "وجدت سيف أخي الوحيد قد استبدل شقته العلوية بشقة والدتنا السفلية، تلك الشقة التي أسكنها الآن، ادعى بحثه عن أماني (البيت به حديقة وأكثر من مدخل). أدهشني عرضه.." ص52، كما تعالج أماني الشرقاوي أحوال النساء: المرأة المدعية في قصة " دال نقطة عين.قاف"، النساء المتصابيات في قصة" استفهام..تعجب"، المرأة المارقة في قصة "مروق"، المرأة الثكلى في قصة"حفلات نحيب"، المرأة المطلقة في قصة" ابتسامة ما"، المرأة المقهورة في قصة "عاد إليها صوتها".

السمات اللغوية:

حضور الأشياء: نابت الأشياء عن البشر في كثير من مشاهد القص في مجموعة "باب مروحة"، فحضور وابور الجاز بديلًا عن الأم والعمة، فهو يذكرها بأيامها السعيدة القديمة حيثُ الدفء، تقول: "أشتاق إلى حمام جدتي الساخن وبخاره المتصاعد من وابور الجاز والبستلة المملوءة بالماء المغلي وعمتي التي تحك جسدي باللوفة... أدخل على مجموعة وابور الجاز بشوق وأنصت لصوته، أصطحب الهاتف النقال، أستمتع بالاغتسال لكن أين البخار؟ وأين كفيّ عمتي الحنون؟" ص56، 57 إن غياب الإنسانية والصحبة وحضور المادية ودخولنا عصر بكام، أو كما عبرت أماني الشرقاوي قائلةً: "سؤال عنود المتطفل.. بكام يتساوى الحذاء مع العملية الجراحية، تتحول الأشياء لديها إلى أرقام و"سيف" يدور في فلكها". ص54

في محبة علامات الترقيم: احتفت أماني الشرقاوي بعلامات الترقيم، فجاءت بها عناوين لقصصها مثل: بين قوسين، استفهام.. تعجب، دال نقطة قاف. عين، فعلامات الترقيم حضرت بديلًا عن الشخصيات التي غابت. فمثلًا في قصة: استفهام.. تعجب فعلامات الاستفهام نابت عن السيدات العجائز، أما علامة التعجب فنابت عن السيدات المتصابيات.

استخدام الاستفهام: استخدمت أماني الشرقاوي الاستفهام تقنية قصصية واختارت "هل" في قصة بين قوسين، لتضمن تعدد الإجابات وبالتالي تعدد الآفاق القصصية، تقول: "هل المولود ذكر أم أنثى؟ هي هي بيضاء أم زرقاء؟ هي سيعاقبها الآخرون لأنها خلقت أنثى وأن ملايين الجينات تفاعلت داخلها؟ وبماذا ستخبرها الأبراج؟ ماذا يحمل لها العالم من أمنيات؟ كيف ستكون ملامحها؟ هل ستشبه أمها الجميلة أم طيبة أبيها؟" ص69 وقد تكررت هل في القصة التي قامت على مجموعة من الأسئلة عشرين مرة، كما جاءت علامات استفهام أخرى هي: ماذا – كيف – متى. إن هذه الأسئلة هي باب الخروج من الحيرة إلى التحقق، ومن التأرجح إلى اليقين.

القصة القصيدة: في مواطن غير قليلة من المجموعة القصصية تأتي نصوص أماني الشرقاوي أشبه بقصائد نثرية، حتى في كتابتها حرصت القاصة على تنسيقها كتابيًا بطريقة تشبه السطور الشعرية، فمثلًا تقول في قصة أوهام:

لحظة التشابك الوشيكة ترنو العينان في اتجاهات متباينة، ترى الوجد بوضوح في عينيه، يتوقف الكون احتفالًا باللحظة الفريدة. هي تمضي وتتداعيى عند زمن الأفول". ص43

جماليات اللغة: تخللت الكتابة القصصية نبضات شعرية تظهر الصورة الكلية متحققة من حيثُ الصوت واللون والرائحة، فمثلًا تقول: "أستيقظ فجأة وأنا مفزوعة. التيه داخل الذات، الصمت وعينا الحية يلاحقاني رغم الظلام. سرسوب ماء ضعيف يكاد يجمد الأطراف." ص52 وتقول أيضًا: "في صباح خريفي بارد تهبط مجموعة من السيدات من أتوبيس رحلات أنيق، تستقبلهن صفحة النيل العجوز ببشاشة وترحيب مطمئن يتجهن إلى المركب الذي سينقلهن إلى جزيرة الذهب، يدب نشاط مؤقت في الأجساد والأرواح، بعد أن تمطى الزمان عليهن وفرد قلوعه". ص37

تُقدم أماني الشرقاوي في بعض قصصها مفردات تنتمي لحقل دلالي معين، فمثلًا في قصة "تسليم" نجد المفردات الدالة على السلام النفسي مثل: هدوء – سكينة – اتساع، ويأتي مع هذه الكلمات تراكيب تقوم بالدور نفسه مثل: يخف الجسد – تتحرك الرأس إلى أعلى بدون أي إرداة – تستقبلني السماء – يغمرني الوجد – أتوهج نورًا إيمانيًا – أنشد لغة خاصة لا أفهمها – يعود الهواء إلى الأعماق – علق القلب بالهوى – تحت المقادير ينعم. عن طريق هذا المعجم لخصت الكاتبة لحظات يقينها وتحقهها في مفردات وتراكيب دالة.

وهناك نموذج آخر للمفردات التي تنوب عن الشخصية الخانعة، فتقوم المفردات بالتعبير وتأتي على النحو التالي: لم أحتج أو أتمرد – أتجرع العبودية – أذعنت لقضائه – لم أستأنف حكمًا – أطاح بي – أغمضت عيني استسلمت لقدر محتوم – عدت مضطرة – أغلق الباب والنوافذ عليّ – أذعنت لأوامره – بدا لي البيت محبسًا – أمضي بلا هدف – داخلي جراح عميقة – ينالني اغتصابًا – أتأمل الباب الموصد – الخضوع الكامل.

إن الإسهام الحقيقي للعمل الأدبي هو الإضافة التي يقوم بها المبدع لإثراء اللغة، وذلك يأتي من خلال المفردات التي يُدخلها القاص في تراكيب غير مسبوقة، نلحظ ذلك عند أماني الشرقاوي عندما تقول: "تستقبلهن صفحة النيل العجوز ببشاشة وترحيب" نعت النيل بالعجوز، فيه من الحكمة ومن الوهن ومن الهدوء ومن السكينة، كل هذه الصفات تختذلها كلمة العجوز.

ومثل قولها: "بعد أن تمطى الزمان عليهن وفرد قلوعه"

"تلطمني إجابة السائق عن المسافة المتبقية"

"ظل الرقم يطلق أصداءه"

"تصرخ الكمنجة معترضة، أهددها كطفل غاضب".

لعلنا نرى هذه التراكيب السابقة وقد تجاورت الكلمات مكونة تشكيلا جديدا أضاف أبعادا إضافية للاستعمالات المعتادة.

اختيار أسماء الأعلام: مثل: سيف، عنود، فيهما من القسوة والعنت والظلم مما يتناسب مع مضمون القصة.

قدمت أماني الشرقاوي عملًا يحفز من يقرأه إلى إعادة التفكير في كل ما نفعل، لأن رحلة الحياة تستحق أن نجابه الصعوبات، كما تطرح هذه المجموعة عددًا من التساؤلات تكون الإجابة عنها بمثابة عودة الصوت، عودة الوعي والقدرة على اتخاذ القرار.