رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى ذكرى البابا شنودة الثالث المِعطاء


فى ١٧ مارس ٢٠٢٠ تحل الذكرى الثامنة لرحيل البابا شنودة الثالث البطريرك ١١٧. وفى ذكراه العطرة اخترت صفة تميز بها البابا شنودة الثالث وهى «العطاء» بسخاء، فكان قد وضع نصب عينيه مبدأ: «نعطى للمُحتالين من أجل المُحتاجين». وهنا أسجل بعضًا مما شاهدته بنفسى.
كان قد اعتاد فى فترة ما يُسمى بأسبوع آلام السيد المسيح «الذى يسبق عيد القيامة أو الفصح» أن يتوجه منذ صباح يوم الثلاثاء لزيارة أديرة وادى النطرون ثم فى الساعة الثانية بعد الظهر يذهب لزيارة الإسكندرية ويشترك فى الصلوات الحزينة. حدث فى عام ١٩٩٧ أن توجه للصلاة بالكنيسة المرقسية بالإسكندرية. لاحظت أن هناك طفلًا يرتدى ثيابًا رثة جدًا وحافى القدمين! يحاول اختراق السياج البشرى الذى أقامه البعض حول البابا! لكن الطفل فشل فى الوصول للبابا عدة مرات. وفى لحظة من اللحظات تمكن الطفل من اختراق السياج ووجد نفسه فى مواجهة البابا مباشرة. فى تلك الأثناء كان أفراد هذا السياج البشرى يقدمون للبابا بعض الأطفال الصغار «بنين وبنات» من ذوى الثياب النظيفة والأنيقة، لنوال بركة البابا والتقاط بعض الصور التذكارية. لكن ما إن رأى البابا هذا الطفل حتى استدعاه واحتضنه بأبوة، ثم لاحظت أن الطفل بدأ يهمس فى أذُن البابا، واستمع البابا له بكل إنصات ثم وضع يده اليمنى على كتف الطفل ليظهر فى الصور التذكارية مع الأطفال. ثم بعد ذلك وقف الطفل على بُعد قليل من البابا. وبعد انتهاء الصلوات وجدت البابا– حيث كنت على مقرُبة منه– يشير للطفل ليحضر إليه ثم وضع يده اليمنى فى جيبه وأخرج منه مبلغًا من المال «عرفت مقداره»، وأعطاه للطفل سرًا «ولم يكن البابا يعلم أنى كنت مراقبًا للموقف». فمضى الطفل فرحًا لأنه سيتمكن من الاحتفال بالعيد. ثم بعد انتهاء الصلوات كان يحرص بنفسه على لقاء العاملين بالكنيسة والمقر البابوى ويوزع عليهم بنفسه– كأب حنون– معايدة العيد، ثم كان يكرر نفس الشىء مع العاملين بالقاهرة، وكان يرفض أن يقوم بهذا العمل من ينوب عنه لأن العبرة ليست فى قيمة المعايدة نفسها، بل فى روح الأبوة. محبته للفقراء والمساكين والمحتاجين والمرضى، شىء يفوق الوصف. أسبوعيًا بالقاهرة والإسكندرية يعقد اجتماعًا مع أولاده المحتاجين باحتياجات مختلفة ويسدد لهم جميع احتياجاتهم وأكثر. أذكر أنه فى عام ١٩٩٩ أن اتصل بى مجموعة من الأصدقاء «بإحدى كنائس الإسكندرية»، وأخبرونى بأنه يوجد شاب عندهم فى الكنيسة فى احتياج شديد لنقل «كِلية»، وتم جمع مبلغ من المال له ولكن ما زال يتبقى مبلغ كبير يصعب تحصيله، فطلبوا منى أن أتصل بقداسة البابا إن كان يمكنه أن يسهم فى علاج هذا الشاب. فاتصلت بالأخ المسئول عن كتابة وإعداد مجلة الكرازة بالقاهرة– وكان اليوم جمعة– فأخبرنى أن البابا فى الدير فى اعتكاف. فقلت له إن كان من الممكن إرسال فاكس للبابا به الرسالة التى أود أن أبلغها لقداسته. كان هذا فى حدود الساعة الخامسة عصرًا. نحو الساعة الثامنة ليلًا– فى نفس اليوم- وصلتنى مكالمة تليفونية من هذا الأخ أبلغنى فيها: «البابا بيقولك احضر غدًا السبت إلى الدير واستلم كل ما طلبته»! أخبرت أصدقائى بهذا واتفقنا أن نسافر صباح السبت إلى الدير لمقابلة البابا. فى تمام الساعة العاشرة صباحًا تم اللقاء والذى استمر حتى الساعة الثانية والنصف بعد الظهر. تحدثنا فى العديد من الموضوعات. وفى نهاية اللقاء وجه لنا سؤالًا: «أنتم حضرتم ليه؟»، تملكت أصدقائى الحيرة والدهشة، فذكرت له القصة، فقال لنا: «طيب»، ووضع يده بدرج بالمنضدة الخشبية البسيطة التى كانت أمامه، وأخرج لنا مظروفًا وقال لنا هذا المبلغ الذى طلبتموه وأكثر شوية لأنه بعد العملية توجد مصاريف أخرى للإسعافات والأدوية.. إلخ. غادرنا المكان ونحن متعجبون من هذه الأبوة العالية.
أذكر أنه فى يناير ٢٠٠٢ توجه البابا إلى قبرص لتدشين كنيستين هناك، وكنت أحد الموجودين بالطائرة لسفرى إلى جامعة قبرص بالعاصمة نيقوسيا لإلقاء محاضرات بها. كان البابا يجلس فى الصف الأول من جهة ممر الطائرة. بعد فترة من إقلاع الطائرة تسرب خبر بين الركاب عن وجود البابا شنودة بالطائرة، فوجدت فجأة طابورًا مصطفًا بالممر لتحية البابا وعرض مشاكلهم. توجه المسافرون فردًا فردًا وجلسوا على الأرض بجوار البابا لعرض مشاكلهم، وهو يستمع لهم بكل اهتمام ويأخذ منهم الأوراق التى سجلوا فيها طلباتهم له. وعندما بدأت الطائرة تقترب من مطار الوصول، عاد الركاب إلى أماكنهم استعدادًا للهبوط. وما إن هبطت الطائرة وتوقفت محركاتها حتى وجدت البابا يقف مستندًا على عصا الرعاية ووجهه متجه نحو الركاب، وأشعة الشمس تخترق أحد شبابيك الطائرة وتسقط على وجهه المبارك، وقد تخيلت أن البابا يقف فى وضع صلاة ليصلى «صلاة الشكر» على سلامة الوصول.
فى عام ٢٠٠٨ أقام معهد الدراسات القبطية بالقاهرة أحتفالية بمناسبة مرور خمسين عامًا على رحيل مُعلم الأجيال «المرتل ميخائيل جرجس البتانونى» مُرتل الكاتدرائية المرقسية الكبرى بالقاهرة. وفى نهاية الحفل تم توزيع ميداليات وهدايا تذكارية على المُهتمين بالألحان الكنسية وعلى رأسهم البابا شنودة. وبعد نهاية الحفل وجدنى أمامه، فقال لى: «أنت حضرت معنا ولم تأخذ شيئًا!! كل ما أخذته فهو لك» وقام بإعطائى كل ما استلمه فى الحفل.
أتذكر فى عيد النيروز «رأس السنة القبطية» فى يوم الجمعة ١١ سبتمبر ١٩٧٠ كنت بالقاهرة، ففى الصباح الباكر صليت الاحتفال بالعيد مع البابا كيرلس السادس بالكاتدرائية المرقسية الكبرى بالأزبكية، وفى المساء حضرت عظة الأنبا شنودة– كان وقتها أسقفًا للتعليم– بالكاتدرائية المرقسية الكبرى بالعباسية. وقبل أن يعظ عن عيد النيروز كان يجيب على بعض الأسئلة، فأحد الأسئلة التى كانت أمامه: «اليوم نحتفل بعيد النيروز، واليوم يوم جمعة، فلماذا لا نفطر فى هذا اليوم لأنه عيد؟»، أجاب قائلًا: «شوف أيها الأخ العزيز.. إننا اليوم نحتفل بعيد النيروز ذكرى الشهداء الأبطال، فإن كان اليوم يوم إفطار فكان يجب علينا أن نصوم فيه تكريمًا لذكرى أولئك الذين ضحوا بحياتهم ودمائهم من أجل الحفاظ على الإيمان الذى وصل إلينا بدمائهم». أذكر أيضًا أنه فى شهر أبريل ١٩٧٧ كان البابا شنودة فى أول زيارة رعوية له لكنائسنا القبطية بأمريكا وكندا، وكان من ترتيبات الزيارة زيارة البيت الأبيض واللقاء مع الرئيس الأمريكى «جيمى كارتر»، وحضر هذا اللقاء السفير المصرى المتميز الأستاذ أشرف غربال– الله يرحمه. وفى اللقاء وجه الرئيس كارتر سؤالًا للبابا شنودة: «ما رأيكم فى مقولة (شعب الله المختار)؟»، وبسرعة بديهة قال البابا: «لو كان هذا الكلام صحيحًا يا سيادة الرئيس، فإن معنى ذلك أن سيادتكم وأنا ليسا من شعب الله إطلاقًا!». سُر جدًا سيادة السفير بهذا الرد البليغ وعلى الفور أخبر الرئيس السادات تليفونيًا بهذا الحوار، مما أثار إعجاب الرئيس السادات. وبعد عودة البابا من زيارته فى يوم الأحد ٢٢ مايو ١٩٧٧– لأنى كنت معه على نفس طائرة الخطوط الدولية TWA فى إجازتى الدراسية– اتصل الرئيس السادات بالبابا شنودة وتقابلا فى مقر رئاسة الجمهورية.
فى إحدى جلساتى الشخصية معه يوم السبت ٢٦ يوليو ١٩٩٧ بالمقر البابوى بالإسكندرية والتى استغرقت ٣ ساعات متواصلة، أهدانى أحدث الكتب التى أصدرها بعنوان «الله والإنسان» وسجل بخطه الجميل إهداء لى على الكتاب، وأسفل توقيعه سجل التاريخ. طلبت منه تغيير التاريخ إلى ٢٧ يوليو، وعلى الفور قام أولًا بالتغير، وبعد ذلك سألنى: لماذا؟ فقلت له إنه تاريخ رهبنة البابا كيرلس السادس. فقال لى إنه أبونا كلنا، الله يقدس روحه.
فى ذكراه العطرة أذكره بكل الحب فقد كان أبًا وصديقًا لى.