رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المصريون.. الضحك فى وجه الخطر



كتبت فى «فيسبوك» أن الشعب المصرى هو الشعب الوحيد فى العالم الذى استقبل «كورونا» والعواصف بالنكات والأغانى الساخرة، ووقف يرقص على أنغامها، فأى قوة وأى حياة؟! كان ذلك بعد أن قهقهت مع أغنية «يا با على الكورونا» وأغنية «عطسة غريبة» تقليد أغنية حاجة غريبة لعبدالحليم وشادية، وأن بمصر جهازًا تضع فيه الكورونا من ناحية يخرجها لك «كورونا باشميل».
عندما بدأ الإعصار الجوى، كتب أحدهم: «العاصفة تأخرت، الظاهر اتقفشت رادار على الطريق»، وكتب آخر: «مش حاسس بالإعصار، الظاهر جابوا لنا واحد قديم مستعمل»، ومع هطول الأمطار بغزارة ظهرت أغنية «يا ما قال لى وقلت له.. فى المطر ورحت له.. يا عواصف فلفلوا»، وعلق أحدهم بقوله: «مش معقول كده! إحنا مش ح نتعلم النظام أبدًا؟ المراكب راكنة صف تانى تحت البيت عندى».
وقد رأيت فى عاصفة السخرية والفكاهة تلك شيئًا أصيلًا فريدًا فى الشعب المصرى، وطبيعة خاصة فى مواجهة النكبات، الكوارث قد تقع فى أى بلد، وتحل بأى شعب، فى أى ظروف اجتماعية واقتصادية متدهورة أو طيبة، لكن كل شعب سيواجه الكارثة نفسها بطريقة خاصة به. وما يهمنى هنا هو الانتباه لتلك الخاصية النفسية العجيبة التى يتسم بها المصرى، فيضحك فى وجه الخطر، بينما قد يواجه المواطن الإنجليزى أو الألمانى الكارثة نفسها بسلوك آخر مختلف. ولو أن لدينا باحثين فى علم الاجتماع، لقدموا لنا بحثًا ممتعًا فى طرق المواجهة النفسية المصرية، وكان دكتور سيد عويس أول من تنبه إلى ضرورة تسجيل وتفسير مثل تلك الظواهر فى كتابه الفذ «هتاف الصامتين»، وأول من نبه إلى ظاهرة الكتابة على هياكل المركبات فى المجتمع المصرى، ولاحظ أن العبارات التى تكتب على المركبات تشكل منظومة ثقافة شعبية خاصة.
وقد ظل د. سيد عويس ثلاث سنوات كاملة من ١٩٦٧ حتى ١٩٧٠ يسعى- فى إحدى عشرة محافظة- خلف كل سيارة «تاكسى أو ملاكى أو نقل عام أو لورى أو عربة كارو أو عربة يد لبيع المأكولات»، ليسجل بدأب تلك العبارات والرسومات والأشياء التى تعلق فى المركبات، مثل حدوة حصان، أو فردة حذاء، أو قرن شطة إلى آخره. واستخلص من بحثه أن كل تلك الأشياء وسيلة لدى المصريين لمواجهة المجهول وتفادى الشر وطلب الرزق والسلامة.
كنت أتمنى لو أن باحثًا الآن قام بدراسة عن الكيفية التى واجه بها المصريون خطر الكورونا والعواصف، ومغزى تلك المواجهة اجتماعيًا ونفسيًا وثقافيًا، وتعليقًا على ما كتبته فى «فيسبوك» تعددت الآراء التى تفسر تلك المواجهة، واتسعت المساحات بينها إلى حد مذهل.
وبينما حسبت أنا أن فى الظاهرة جانبًا حيويًا متفائلًا وقويًا، فقد اعتبر البعض أن الاستخفاف بالوباء جهل وغباء، مثله مثل الرقص على أبواب الدوائر الانتخابية، واعتبر البعض أن الشعب من كثرة همومه لم يعد يبالى بشىء، لكنّ عددًا غير قليل التقى معى فى أن الظاهرة تتضمن إشارة إلى حيوية النفسية المصرية، وقال إن الشعب المصرى طالما قاوم الأمراض والظلم بالنكتة، وإن السخرية حيلته الدفاعية الصحية، خاصة إن كانت مقترنة بالأخذ بالأسباب، وعلق آخر بكلمتين جميلتين قائلًا: «إرادة الحياة». وأضف إلى سيل السخرية المبهج، الذى يجلو جانبًا عجيبًا وجميلًا فى الشعب، صور التضامن الواسعة مع الناس، بدءًا من الكنائس التى فتحت أبوابها لجميع خلق الله فى ظروف الأمطار، ومطعم «سمكاوى» الذى أعلن عن طعام ومكان مجانى للمتضررين من المطر، وفندق فى شارع شريف أعلن عن أن حجراته اليوم مجانًا لكل الموجودين فى محطة قطارات مصر، بعد توقف حركة القطارات، والشباب الذين عرضوا سياراتهم لإنقاذ سيارات الآخرين الغارقة، كل صور التضامن هذه، وما سبقها من سيل النكات فى وجه الخطر، جديرة بالدراسة والتوثيق، لأن ما بين أيدينا ليس شيئًا عاديًا، بل لؤلؤة، كلما أظلمت الدنيا من حولها راحت تشع وترسل نورها فى ضحكاتها العالية.