رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ مصطفى العروسى.. الدقة وقوة الشخصية



الإمام الشيخ مصطفى محمد أحمد موسى داود العروسى هو الإمام العشرون فى سلسلة شيوخ الجامع الأزهر. ينتمى إلى أسرة العروسى، وهو ابن الإمام الرابع عشر محمد أحمد العروسى وحفيد الإمام الحادى عشر أحمد موسى داود أبوالصلاح العروسى.
نشأ مصطفى العروسى فى بيت علم، حيث تلقى العلم على يد والده، وظهرت نجابته، والتحق بالأزهر وتعلم على أيدى كبار العلماء ومنهم الشيخ «إبراهيم الباجورى» والشيخ «أحمد عبدالجواد السفطى» والشيخ «حسن القويسنى» وكلهم كانوا من مشايخ الأزهر الشريف ومن كان هؤلاء شيوخه فلابد أن يكون لديه غزير المعرفة وسعة العلم. فلمَّا توفى والده حلَّ محلَّه فى التدريس لطلبته، وكان شغوفًا بالدرس، فكان يواصل التدريس لطلبته من الصباح إلى المساء لا يقوم إلا إلى الصلاة، ولعل هذا هو الذى شغله عن التأليف، وكان يمتاز بالمرونة واللباقة.
لما أضعف المرض الإمام إبراهيم الباجورى واقعده نظرًا لتقدمه فى السن، صدر القرار بإنابة أربعة وكلاء عنه فى القيام بشئون الأزهر، وكان يرأسهم الشيخ مصطفى العروسى، وما إن توفى الشيخ الباجورى حتى تولى الشيخ العروسى المشيخة سنة ١٨٦٤ م، كما تولاها من قبل أبوه وجده.
وكان مشهورًا بالتزام الدقة وقوة الشخصية والحرص على النظام، وكانت لا تأخذه فى الحق لومة لائم، فهابه المشايخ وخافه الطلبة، ومضى فى طريق الإصلاح بعزمٍ وصرامةٍ فأبطل كثيرًا من البدع الشائعة والخرافات فى ذلك العصر، والتى كادت أن تشوه صورة الإسلام وتعاليمه وتحجبها عن الأبصار، ومن هذه البدع أن كثيرًا ممن يحفظون القرآن اتجهوا للتكسب به بصورةٍ غير مرضية. وكان فريقٌ آخر يجلسون للتدريس فى الأزهر وليست لديهم الكفاءة لمزاولته، فكان يزورهم فى حلقات الدرس ويسمع إليهم ويناقشهم، ويطرد من ليس كفؤًا للتدريس، ولا يصلح لهذه الوظيفة، ولم يكتف بهذا وإنما عزم على عقد لجنة امتحان لكل من أراد أن يقوم بالتدريس فى الأزهر والمدارس التابعة له، وهكذا برزت شخصية الرجل وشدة عزيمته وقوة إرادته وظهر للعلماء والطلاب أنهم فى عهدٍ جديدٍ لا مكان فيه للكسالى والخاملين، وقد أثار هذا الاتجاه الإصلاحى نفوس بعض الحاقدين عليه، وخافوا على مستقبلهم فبدأوا بمحاربة الرجل والوشاية به، وخوفوا المسئولين فى البلاد من جرأته وقوة شخصيته.
وكان يرأس البلاد فى تلك الآونة الخديو إسماعيل الذى كان يخشى أى ثورةٍ شعبيةٍ ضدَّه نتيجة الديون التى أوقع مصر فيها، فقام الخديو بعزل الإمام العروسى من منصب مشيخة الأزهر فى سنة ١٨٧٠م. ولم تذكر المصادر التاريخية سببًا لهذا العزل غير المسبوق، ومن المعلوم أن لمنصب شيخ الأزهر جلاله وهيبته فى نفوس الحكام والشعب، وكان قرار العزل أيضًا مفاجأة لم يتوقعها الشيخ نفسه. وتبادر إلى الأذهان أن العزل راجعٌ إلى مسألة المتسولين بالقرآن، ومع ما فعله من امتحان من أراد التدريس بالأزهر من العلماء وغيرهم، مما دفع الجميع للاتصال بالحكام طلبًا لحمايتهم من صرامة الشيخ وحزمه، وهذا رأىٌ غير صحيح بدليل أن الشيخ الذى أتى بعده وهو الشيخ العباسى المهدى قد تمسك بامتحان العلماء وغيرهم عند التدريس بالأزهر، ومنع المتسولين أيضًا ونفَّذ ذلك، لكن المطَّلع على تاريخ هذه الفترة من تاريخ مصر يرى السبب الأول والأخير هو استبداد الخديو إسماعيل، وارتكابه كثيرًا من المظالم، وذلك بإيعاز من إنجلترا وفرنسا ضدَّ الأزهر وشيوخه، إضافة إلى أنه لم يكن يستريح لوجود شخصياتٍ قويةٍ حوله، ولما رأى فيه من القوة، والتمسك بتعاليم الإسلام ومقاومة البدع والخرافات، فخاف أن يقوم بثورةٍ شعبيةٍ وبخاصةٍ بعد وقوع الدولة فى الإفلاس، وشيوخ الأزهر لا يرضون الظلم للشعب.
وهناك رواية أخرى تقول: إن الخديو إسماعيل استاء من شعبية الشيخ العروسى شيخ الأزهر، فأراد عزله ولكنه خشى الفتنة؛ لأنه شىء لم يقع من قبل لأحد من مشايخ الأزهر، فأخذ فى جس نبض العلماء وسبر غورهم فى ذلك، فهوَّن عليه الشيخ «حسن العدوى» الأمر، وأوضح له أنه وكيل الخليفة يعزل من يشاء، والوكيل له ما للأصيل، فسُرَّ الخديو وبادر إلى عزل الشيخ العروسى وكان العدوى يطمع فيها! وما قال ما قال إلا توطئة لنفسه فأخلف الله ظنه، وتولى الشيخ «العباسى المهدى».
توفى الشيخ مصطفى العروسى ضحى يوم الجمعة ٣ يونيو ١٨٧٦م بعد أن عاش ست سنوات فى منزله فى ألم نفسى ومرض بعد الأحداث الظالمة التى حدثت له وهو الشيخ الجليل صاحب النفس العظيمة والهمة العالية وزاد من معانته وطأة المرض وانزوت نفسه.
كانت تعزيته فى الصبر والسلوان وفوض أمره إلى الله مُسيّر شئون الكون ومدبره بحكمته. ولم يذكر التاريخ أين دُفن وهل صُلِّىَ عليه فى الأزهر وأجريت له المراسم المعتادة على أساس أن عزله كان ظلمًا وبدون سبب؟!