محمد العسيري يكتب: البحث عن كورونا
المعرفة أساس الاجتهاد.. هكذا تعلمنا.. فلماذا تحولت المعرفة الآن إلى أساس للفتاوى التى تثير الذعر والهلع وتخلع القلوب الآمنة من صدورها..
كنت وما زالت فى صف «السوشيال ميديا».. أبحث دائمًا من خلالها عن «الجيد».. وأثق أن الزمن كفيل وحده بطرد الردىء منها.. أجد فيها وسائل للعلم.. والمعرفة.. والمتعة.. وبدائل سهلة للتعلم.. والإبداع.
على سبيل المثال.. كنت وأصدقائى ممن يكتبون الشعر والقصة.. أو هكذا كنا نتوهم، منذ ما يقرب من ثلاثين سنة، نعيش فى قرى بعيدة من الجنوب المصرى.. ولأننا كنا نحلم بالنشر فى الصحف.. كنا نذهب إلى المركز مسافة عشرين كيلو كل صباح، لنحصل على «الجريدة».. نفرها قبل أن نترك «فرشة بائع الصحف»، نتابع الصفحات الثقافية بحثًا عن قصيدة منشورة.. أو رد صغير من المحرر الثقافى نعتبره نصرًا كبيرًا، إن حدث.
وكانت وسيلة التعاطى مع هذه الصحف ومحرريها «رسائل البريد»، نحضر المظاريف بالعشرات والطوابع مثلها.. وننسخ القصائد باليد.. نعبئ تلك الأظرف ونضع الطوابع ونذهب لمكاتب البريد نرسلها وننتظر.
نعم كانت هناك متعة فى تلك المشقات الصغيرة.. كانت هناك متعة فى البحث والتنقل والانتظار.. لكن كان هناك إحباط وخيبة وتعاسة وإحساس بالتخلى.. تخلى العاصمة ومثقفيها عنا.
الآن.. أنت لست فى حاجة إلى كل ذلك.. صارت صفحة «الفيسبوك» لوحدها منبرًا يغنى عن الجريدة ومحررها الثقافى.. وعن البريد وطوابعه.. وعن الانتظار.. هى مجرد دقائق وتصل قصيدتك أو قصتك.. أو عزاؤك لقريب.. إلى آخر الدنيا.
صار بإمكانك اليوم أن تحجز عند طبيب فى القاهرة.. وأنت تقيم فى أسوان مثلًا.. يعنى الموضوع مش بس خاص بشباب المبدعين.. صرنا جميعًا.. أسرى للميديا الدوارة.. سريعة الإيقاع.. لكن ما يحدث فى قضية فيروس كورونا.. مرعب وكاشف أيضًا.. وأخطر ما فيه.. هو ذلك العناد والنفى المطلق لكل ما هو «حكومى» قبل مناقشته أو التفكير فيه حتى ولو لثوانٍ.
بدأ الأمر باعتباره غضبًا ربانيًا على الصين التى تأكل الحشرات.. ثم صار بعد أيام قليلة غضبًا ربانيًا على «الشيعة فى إيران».. وكأن الأمراض تفرق بين أصحاب المذاهب.. ثم سرعان ما تحول إلى مؤامرة أمريكية على الصين ردًا على مواقفها الاقتصادية، وتعطيلًا لنموها وغزواتها الاقتصادية فى أنحاء العالم.. ثم سرعان ما أعلن عن إصابات بين الأمريكان أنفسهم وجدنا لها تبريرًا بأن الأفلام السينمائية التى صدرتها أمريكا للعالم بعضها يتحدث عن «وباء» يستخدم فى إفريقيا عبر حرب بيولوجية ويطال الأمريكان جزءًا من الدمار- طباخ السم بيدوقه- وأن من يصنعون تلك الحرب لا يعنيهم أن يموت مليون أمريكی فى تلك الحرب.. لأنها حرب.. المهم النصر الأمريكى فى النهاية- ثم عرج «الفيروس» ومتابعوه من أمريكا وإيران إلى الخليج العربى.. وخرجت نعرات بعض «الصبية» ومراهقى السياسة- ومصر فى القلب دومًا من تلك المهاترات- لكنها لم تجد صدى كبيرًا هذه المرة، ووجدت من يردها ويرد عليها.. ولنا فى «النايبة صفاء الهاشم» دليل وشهادة.
وفجأة.. صارت مصر.. محور «الوباء».. دخل «الإخوان المسلمون» بقنواتهم ومأجوريهم والمتخلفين منهم والممسوحة عقولهم إلى الساحة.. وصوبوا مدافعهم تجاه «هالة زايد» والحكومة كاملة بعد ذلك.. بمنطق أننا نتكتم على الأمر.. وأن «الوباء عمَّ مصر».. و«إحنا مخبينه جوه».
اختفى «القلش» على أتوبيس الزمالك.. والردح لنجوم الأهلى.. واختفى حوار «ياسمين وأخوها وحبيبها» ولم يعد على مائدة المصريين سوى «كورونا»، الذى استقبلناه بالقلش، فضحكنا حتى أمتنا قلوبنا من «شربات الفرح.. والشيكولاتة والكاكاو».. إلى الخوف والرعب ومطالبة الحكومة بإغلاق كل شىء.. الآن وليس غدًا.
النساء رمانة ميزان «مسلسل الهلع» الذى يعرض فى كل بيوت مصر الآن.. وهذا أمر طبيعى جدًا.. فهن الأكثر احتكاكًا.. بصحة أطفالنا.. والأطفال هم «هدف» أى فيروس.. أى أم فى العالم لا تتحمل «كحة طفلها».. وشركات الأدوية «تربح دائمًا».. خاصة فى فصل الشتاء.. وهو «موسم الدراسة».. ولأن مشاكل الأمهات وجروبات «الماميز» التى تسلل إليها «الإخوان» لم تنته أصلًا.. كان من الطبيعى أن تكون الحرب الآن على تعطيل الدراسة، وبدا أن السيد الوزير وحكومته يتخذان موقفًا متعنتًا.. وكأنهما ضد صحة أطفالنا ومصلحتهم.. رغم أن معظم مدارس مصر رفعت الغياب فعلًا.
وخرج تصريح منسوب للوزير يقول إن المسافة بين كل طالب وآخر يجب أن تكون مترًا على الأقل.. وهو أمر غير معقول على الإطلاق.. فالأطفال يجلسون «بالتلاتة» فى تختة واحدة.. فمن أين ستجىء تلك الأمتار.
ولو صدر قرار من التعليم الآن.. بوقف أو إرجاء الدراسة.. ستخرج آلاف الأسئلة عن السنة اللى ضاعت.. وعن الامتحانات.. ومتى ستتم؟.. فى رمضان ولا بعده.. ولن ننتهى.. لأنه لا توجد إجابة مريحة.
مختصر الكلام.. نحن نتعامل مع «مرض جديد» يهدد اقتصاد العالم وصحته، حتى هذه اللحظة يبدو مرضًا غامضًا.. ضعيفًا مثله مثل الإنفلونزا.. وقاتلًا فى نفس الوقت.. لقد عزلت إيطاليا ثلث سكانها تقريبًا.. لا يفرق بين غنى وفقير.. لا يعرف الفرق بين أبيض وأسمر.. لا يعرف الفرق بين شيعة وسنة.. مسلم أو مسيحى.. والحرب التى نخوضها على الهواء مباشرة.. والسوشيال ميديا فى القلب منها، مثلما كانت الفضائيات فى مقدمة صفوف الجنود فى حرب أفغانستان ومن بعدها العراق..
الآن.. نحن فى المدرجات.. والموبايلات فى إيدينا.. ننتظر أى عطسة فى جروب مجهول.. لنعطس نحن أيضًا ونشعر بالوجع فى مفاصلنا وبالحرقان فى حلوقنا.
كلنا يتمنى.. أن يخرج أحدهم ليقول إن العلماء فى أى حتة من العالم وجدوا مصلًا.. ليس مهمًا المليارات التى ستجنيها الشركات المنتجة.. المهم أن يذهب ذلك القاتل الذى يهددنا بلا رجعة.
ليس أمامنا سوى الانتظار.. هذا ما نظن.. وظنى أن أمامنا الكثير لنفعله.. وأول ما يجب أن نفعل- كما أعتقد- هو ألا نصدق كل ما يقال فى «السوشيال» وأن «نتعقل».. وأن نمضى فى شوارعنا بحذر.. وأن نصدق فعلًا أن للكون ربًا يحميه!!