رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الموسيقار الكبيرعبده داغر: الألحان خرجت من القرآن الكريم

الموسيقار الكبير
الموسيقار الكبير عبده داغر

يقف تمثاله شامخًا بجوار تماثيل لعظماء الموسيقى فى العالم، وعلى رأسهم باخ وبيتهوفن، فى حديقة الخالدين بألمانيا، وتُدرس ألحانه فى جامعات عالمية، عزف بجوار أم كلثوم وفايزة أحمد وغيرهما من أساطين الغناء، وكان صاحب فكرة تأسيس فرقة الموسيقى العربية، ويحمل ذاكرة تعتبر ثروة قومية.
هو الملحن العالمى عبده داغر، الذى حاورته «الدستور»، حيث تحدث عن قصة إجباره أم كلثوم على مطاردته أكثر من مرة ليوافق على العمل معها، وكيف قدم للعالم موهبة فذة مثل سيد النقشبندى، وغيرهما من الحكايات والأحداث التى كان أبطالها رؤساء وسياسيين وفنانين.

■ كان والدك وجدك من أساتذة الموسيقى.. كيف أثر ذلك فى حياتك المهنية؟
- على عكس المتوقع، حاول أبى منعى من تعلم الموسيقى بكل السبل الممكنة، ووصل الأمر إلى ضربى، ولكن كانت هناك أسباب مقنعة لأفعاله تلك.
ولدت فى مركز طنطا، الذى كان ناديًا يرتاده الموسيقيون والسمّيعة من كل مكان، خلال مولد السيد البدوى، ونشأت فى أسرة تهوى الموسيقى، وكان جدى من أساتذة التلحين الكبار، وأسس معهدًا وناديًا لتعليم الموسيقى، وكان والدى يساعده، وتعلم أبى عزف العود بعد ذلك بشكل احترافى، وتتلمذ على يديه محمد فوزى وبليغ حمدى.
حتى ذلك الوقت كان أبى لم يتزوج بعد، وحينما قرر الزواج فوجئ بتكرار رفضه لأنه كان يعمل عازفًا، وهذا الأمر كان مخجلًا فى هذا الوقت، وحينما تزوج أمى تعهد بأن يُبعد أولاده عن الموسيقى، حتى لا يعانوا مثله.
ورغم أنه كان يضربنى كلما رآنى ممسكًا بالعود، إلا أننى كنت أهرب إلى بيت جدى لأستطيع العزف، وكنت أرى الطلاب حول جدى يتعلمون الموسيقى وأتعلم مثلهم، وبعد سنوات أصبحت مشهورًا فى طنطا، وكان الطلاب يتركون جدى ويأتون للتعلم منى، وتفوقت على أبى فى عزف العود، ولكننى أحببت الكمانجة أكثر.
وعندما جئت إلى القاهرة، عملت صبيًا لدى والد الفنان أحمد الحفناوى، لأننى لم أكن أعرف أحدًا من الفنانين الكبار، وبدأت القصة.


■ عاصرت تأسيس فرقة الموسيقى العربية.. كيف بدأ الأمر؟
- أنا صاحب فكرة تأسيس فرقة الموسيقى العربية، واقترحت الفكرة خلال استضافتى بالبرنامج الذى كان يقدمه الملحن سليمان جميل فى الإذاعة المصرية، وكان يحمل اسم «من الشرق والغرب»، فقد أشرت، فى هذا اللقاء، إلى مساعى الاحتلال الإسرائيلى لسرقة التراث الموسيقى العربى، وشددت على ضرورة تأسيس فرقة للمحافظة على هذا التراث.
وكانت الصدفة الجميلة أن الدكتور ثروت عكاشة، وزير الثقافة حينها، استمع إلى حلقة البرنامج، وسأل عنى، وعلم أننى أعمل فى مسرح البالون، الذى كان يرأسه وقتها شفيق أبوعوف، وتواصل معى وطلب تنفيذ هذه الفكرة على الفور.
■ ما أسباب خلافاتك المتكررة مع أم كلثوم؟
- «ماكانتش بتدفع كويس»، وكانت تمنع أعضاء فرقتها من العمل مع أى مطرب آخر، وأنا أكره ذلك، وأحب الحرية.
أول عمل جمعنى بأم كلثوم هو أغنية «الهوى غلاب»، وتركتها بعد ذلك، بسبب الأجر المتدنى، ولكن المطرب فريد الأطرش تواصل معى وأقنعنى بالعودة إلى الفرقة مرة أخرى.
عُدت بالفعل، وبعد فترة عرض علىّ كارم محمود أن أسافر معه إلى تونس، لتقديم حفلة هناك، فتركت الست مرة أخرى وسافرت مع كارم، وعُدت بعد ذلك إلى مصر وانقطعت العلاقات.
وبعد فترة، حضرت أم كلثوم حفلًا لفرقة الموسيقى العربية، وكنت أعزف خلاله، وطلبت من الدكتور ثروت عكاشة إقناعى بالعودة إلى الفرقة مجددًا، ولكننى كنت أخترع أعذارًا فى كل مرة تحاول فيها الست التواصل معى «مرة مريض.. ومرة مراتى فى المستشفى».
عدت إلى فرقة الست بعد ذلك، لأشارك فى عزف أغنية «أغدًا ألقاك»، وبعد تنفيذ ٢٠ بروفة أصيبت أم كلثوم بالإنفلونزا، وتوقف العمل لمدة ١٥ يومًا، ثم حددنا موعدًا للبروفة المقبلة، ولكن الموسيقار محمد عبدالوهاب، ملحن الأغنية، مرض وقتها، وتزامن ذلك مع إحساسى بالظلم، بسبب الأجر المتدنى الذى تمنحه الست للعازفين، فتشاجرت معها، وطلبت مضاعفة أجر العازفين.
كانت هذه هى المرة الثانية التى أطلب فيها زيادة أجر العازفين، فقد تشاجرت معها قبل ذلك ورضخت بالفعل وضاعفت أجر جميع العازفين، ولكن فى هذه المرة قالت لى إنها ستعطينى ما أريد، ولكن هذا سيكون لى فقط وليس لباقى الفرقة، فاعترضت وقلت لها «زيهم زيى»، وتفاقمت الأزمة وحدثت قطيعة أخرى.
سارعت أم كلثوم بالتواصل مع الدكتور عكاشة مجددًا، الذى هاتف الملحن الكبير عبدالحليم نويرة، وطلب منه أن يقنعنى بالصلح، وأشار إلى علاقة الست بالرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وقال لـ«نويرة»: «ما ينفعش حد يزعل الست، ممكن تشتكيه لعبدالناصر.. ممكن تحبسه.. خلى كلام أم كلثوم يمشى».
ولكن حتى بعد تهديدى بالحبس لم أرضخ، واقترحت عليهما حلًا قد يرضى جميع الأطراف، وهو أن أقف إلى جوار الست وأعزف وهى تغنى، ورأى «عكاشة» أن الفكرة جميلة، ولكن أم كلثوم رفضت بالطبع، لأنها لا تحب أن يخطف أحد منها الأضواء.. كانت ست قوية ولن تتكرر.

■.. ولماذا تركت فايزة أحمد أيضًا؟
- «ماعجبنيش اللى بتقوله»، ولكن هذا لا ينفى أنها من أفضل المطربات فى الوطن العربى.. أزمتها فقط فى أنها كانت تحب تكرار الكوبليهات، وأنا كنت أكره ذلك.
كنت أعزف إلى جوارها فى حفل، ولم أتمالك نفسى حينما رأيتها تعيد الكوبليه أكثر من مرة، فقلت لها: «كفاية.. هو إحنا فى كُتّاب؟»، وأخذت كمانجتى ورحلت.
■ كيف بدأت علاقتك بالشيخ سيد النقشبندى؟
- «أنا اللى اكتشفت النقشبندى»، قابلته أول مرة فى مركز قلين بمحافظة كفرالشيخ، وحينما سمعته قلت له إن صوتك عظيم لكن ينقصه بعض الأشياء، وبدأت أُعلمه، ونصحته بالانتقال إلى طنطا. 
غنى النقشبندى بعد ذلك فى حفل بكفر الزيات، أمام والد الرئيس الراحل أنور السادات، «وكان من السمّيعة التُقال»، فطلب منى والد الرئيس أن أدعو النقشبندى للغناء فى حفل بمولد السيدة زينب، وقال لى إنه سيحكى عنه للرئيس، وبالفعل أمر السادات بأن يتعاون النقشبندى مع بليغ، وبدأت أسطورة المنشد المحبوب.
■ ما تفاصيل تعاونك مع الشيخ محمد عمران؟
- كان الشيخ محمد عمران يملك خامة صوت نادرة لن تتكرر، وكان يصغرنى فى السن، وهو صعيدى الأصل.
جاء إلى بيتى ذات مرة، وطلب منى أن أُعلمه المقامات الموسيقية، فبدأت معه من السلم الموسيقى، وبعد ذلك سمعه عبدالوهاب يُنشد فى حفل، فطلب منى أن يقابله، وتكررت الزيارات لبيت عبدالوهاب.
كان عمران سمّيعًا ومتصوفًا وزاهدًا، وهو فى الأصل رجل ذو خلفية دينية.
■ بشكل عام.. من أحب الشيوخ إلى قلبك؟
- الشيخ على محمود والشيخ طه الفشنى والشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ البهتيمى والشيخ عبدالفتاح الشعشاعى والشيخ أبوالعينين شعيشع والشيخ الحصرى.
■ هل ترى علاقة بين الموسيقى والقرآن؟
- نعم.. بكل تأكيد، فالموسيقى العربية خرجت من القرآن، وأنا أول من قال ذلك بكل وضوح، والدليل على ذلك أن أول ملحنين عرب فى التاريخ كانوا مشايخ يحفظون القرآن.
عبدالوهاب تتلمذ على يد الشيخ على محمود، وحتى بعد أن اشتهر كان يستعين بالشيخ على حينما تواجهه مشكلات فى التلحين، ولا يمكن أن ننسى فضل الشيخ سيد درويش والشيخ سيد مكاوى. 
لا بد لدارس الموسيقى أن يتعلم التجويد والنحو، لأن ذلك سيجعل مخارج الحروف سليمة، وسيساعد فى أن تكون النغمة منضبطة، لذلك كان أغلب مطربى الستينيات من حفظة القرآن.

■ من الصديق الأقرب؟
- محمد رشدى وشفيق جلال ومحمد الكحلاوى ومحمد عبدالمطلب وكارم محمود ومحمد قنديل.
■ كيف صنعت هذه الشهرة الكبيرة فى ألمانيا؟
- بدأ الأمر بوفاة الملحن الكبير عبدالحليم نويرة، وبعد سنوات قليلة قررت الدكتورة رتيبة الحفنى طردى من فرقة الموسيقى العربية، وأحالتنى للمعاش المبكر، ومكثت فترة فى بيتى. وذات يوم زارنى الملحن حسين جنيد، وكان بصحبته صحفى ألمانى، طلب الاستماع إلى ألحانى، وسجل معظم الشرائط، وحينما عاد لبلاده قدم ألحانى لإحدى الجامعات، فوصلتنى دعوة لتقديم حفل فى ألمانيا، مع إمكانية اصطحاب موسيقيين آخرين لمساعدتى، فتخيلت حينها أن الأمر سيكون مجرد سهرة غنائية.
سافرت إلى ألمانيا، واستضافونى فى ميونخ، وكنت أشعر بخوف شديد، وأُحس بأنهم سيستهزئون بنا ثم يطردوننا، ولكننى فوجئت يوم الحفل بوجود صور لى معلقة فى كل مكان، صعدت على المسرح، ورأيت الجمهور، وبدأت العزف، وبمجرد الانتهاء انفجر الجمهور مصفقًا لمدة تجاوزت ١٠ دقائق. حتى هذه اللحظة لم أتخيل أن هذا التصفيق لى، ما جال بخاطرى حينها أن شخصًا مشهورًا دخل إلى المسرح فحياه الجمهور، إلى أن جاءنى شخص عربى كان من بين الجماهير، وقال لى: «رفعت رقبتنا يا عم عبده»، فسألته: «ماذا تقصد؟»، فقال لى: «هنا كل الجرايد ومحطات الراديو بتتكلم عنك من أسبوع، وحطوا لك تمثال فى حديقة الخالدين». بعد ذلك دعيت لتقديم حفلات أخرى فى أكثر من دولة، مثل هولندا وسويسرا، ولكن بكل صدق لم أحظ بالشهرة التى أستحقها إلا فى ألمانيا، والدليل على ذلك أننى حينما سافرت إلى سويسرا لتقديم حفل هناك استقبلتنا مديرة المسرح بشكل غير لائق، ولكن بعد أن سمعت موسيقاى تغيرت تمامًا، وانبهرت بى، وقدمت لى «حشيش»، حينها كنت أحبه، ولكن الآن «مش بشرب».
■ هل تتذكر موقفًا طريفًا مرتبطًا بالحشيش؟
- ذات يوم، قدمت حفلًا فى مكتبة الإسكندرية، برعاية اليونسكو، وكان يحضره الرئيس الراحل حسنى مبارك، وشربت حشيش أمامه، وكان بجوارى محمود حميدة، و«كان هيموت من الضحك».
■ ما رسالتك لمن يريد تعلم الموسيقى؟
- عليه أن يقصد المقرئين والمنشدين، وعليه سماع القرآن وتعلم التجويد، ولا بد من أن يطلع على كل ما هو جديد فى مجال الموسيقى والفن عمومًا، لأن الوضع حاليًا أصبح محزنًا، فبعض المطربين لا يغنون بالطريقة الصحيحة، وهذا يسىء لمصر، فنحن دولة قدمت للعالم فنانين وأدباء.
وسأؤكد ما قلته قبل ذلك، حروف القرآن علمتنى اكتشاف الألحان، فالله سبحانه وتعالى خلق القرآن مرتبًا ومنغمًا بالتشكيلات، والكثير من الملحنين مثل رياض السنباطى وعبدالوهاب كانوا يستعينون بالقرآن قبل التلحين.

كم كان أول أجر تحصل عليه؟
- أول أجر حصلت عليه كان جنيهًا، وكان مع محمد رشدى، وحينما عملت مع الست كان أجرى ١٥ جنيهًا فى الحفلة، وكان كارم محمود يعطينى جنيهًا ونصف الجنيه.. وكان يحب التوفير «بيحط القرش ع القرش»، لذلك كان أول من يمتلك فيلا فى مصر الجديدة.