رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تمثال"بافالوفا".. في كعبة الفنون!


إذا كان "مسرح البولشوي" معبدًا للفن في روسيا؛ منذ عهد القيصرية الروسية في مطلع القرن السابع عشر وامتدادها بالإمبراطورية الروسية حتى الثورة البلشفية في مطلع القرن التاسع عشر وحتى الآن؛ فإن "أكاديمية الفنون المصرية" بأساتذتها وعلمائها وفنانيها في فروع الفن كافة؛ تُعد معبدًا للفن في مصرنا المحروسة؛ وامتدادًا طبيعيًا لتأكيد عُمق وأصالة قلم وإزميل وريشة الفنان المصري على امتداد ضفتي نهر النيل العظيم؛ منذ عهد الإمبراطورية الفرعونية التي بدأت قبل الزمان .. بزمان، وحتى اللحظة الآنية !

ولا أبالغ ـ من وجهة نظري ونظر كل المؤمنين برسالة الإنسانية السمحاء ـ إذا قلت : إن الدور الحيوي لهذه المؤسسات الثقافية لا يقل عن الدور الذي تلعبه المؤسسات الدينية في أماكن ممارسة طقوس العبادة لكل الديانات العقائدية الإنسانية : السماوية والوضعية، فكلها جاءت بهدف الوصول إلى تحقيق المصالحة مع النفس؛ وترسيخ الإيمان بفلسفة تكريم وإعلاء قيمة الإنسان .. خليفة الله في الأرض !

من هذا المنطلق.. كان لابد لي من وقفة إشادة وإضاءة؛ على ما تقوم به "أكاديمية الفنون المصرية" نحو فرع من فروع الشجرة الفنية العملاقة التي ترعاها وهو "معهد الباليه"، والعمل على إضافة اللمسة الجمالية للمبني الذي يضيء داخل ساحة الأكاديمية؛ بوضع تمثال بالحجم الطبيعي في مدخل المعهد لـ "الباليرينا الروسية العالمية /آنا بافالوفا" ـ وسيأتي الحديث عنها بالتفصيل ـ حتى يشعر المشاهد أو الزائر أو الدارس بنبض فن "الباليه " الإنساني الراقي؛ الذي يقولون عنه: إنه فن المساج الروحي !

فقد قام الفنان الدكتور أشرف زكي، رئيس الأكاديمية، والدكتورة غادة جبارة، نائب رئيس الأكاديمية، وسفيتلانا سوبوفا، القائم بأعمال سفير روسيا، ويوسوب أباكاروف، القنصل الروسى بالقاهرة، والدكتور عاطف عوض، عميد المعهد العالي للباليه؛ بإزاحة الستار عن التمثال للباليرينا العالمية آنا بافلوفا بساحة أكاديمية الفنون، المهدى من الفنان المصري حفيد الفراعين العظماء وصولاً إلى الإرث المعنوي لإزميل المثال العبقري "محمود مختار"، وهو النحات الدكتور أسامة السروى؛ الحائز على "جائزة بوشكين" من الرئيس الروسي "بوتين"، وصاحب موسوعة "فن النحت الروسي"؛ لنشر الثقافة الروسية واللغة الروسية من خلال نحت العديد من التماثيل فى مصر وروسيا، مما جعله أحد روابط العلاقات المصرية الروسية الثقافية، حيث حصل على ماجستير فى النحت من أكاديمية الفنون الجميلة بالاتحاد السوفييتى- (أكاديمية لينينجراد) 1989، ثم على دكتوراه الفلسفة فى الفنون الجميلة منها أيضا عام 1992.

ولمن يسأل.. من هي هذه الأسطورة الباليرينا "آنا بافالوفا" ؟

هي الفتاة التي خرجت إلى الحياة تحت سقف منزل فقير وأسرة تزيد فقرًا عن المنزل؛ وبرغم وفاة والدها وهي طفلة صغيرة إلا أن موهبتها الفذة الطبيعية أتاحت لها الالتحاق بمدرسة الباليه التابعة لمسرح "مارينسكي" في الأنفاس الأخيرة من القرن التاسع عشر؛ وعمرها لم يتعد تسع سنوات فقط؛ وقد تخرَجت أنا بافلوفا في عام 1899 وبزغ نجمها بسرعة حتى أصبحت راقصة الباليه الأولى في روسيا (بريما بالرينا) أي الراقصة الأولى، ومن الطريف أن يبتكر الشعب الروسي صنفًا من الحلوى باسم : "تورتة بافالوفا" يعود أصل تسميته إلى تلك الراقصة الرائعة .

و"بافالوفا" تلك الفراشة المحلقة في عالم السحر والجمال التي جاءت إلى العالم وقامت بوداعه وهي لم تخطُ بعد الخطوة الأولى نحو سن الأربعين؛ رحلت في يناير 1931 بعد حياة حافلة بداية من أدائها المُعجز في عام 1906 في باليه " جيزيل" بالتحديد، وفي عام 1907 سافرت مع فرقتها التي تعمل بها بجولة في أوربا رقصت خلالها في : استوكهولم، كوبنهاجن، برلين، باريس، ولندن . وكان الطابع المميز لأداء اّنا بافلوفا؛ هو بذل كل جهد ممكن لإظهار جماليَّات هذا الفن الراقي، ولتجوب به أركان العالم مثل "ملاك بأجنحة شفافة" جاء من بين دفتي كتب الأساطير محلقة عبر حواجز الزمان والمكان؛ وليقول عنها النقاد: "... إن خطواتها على المسرح هي شكل جديد من أشكال الشعر؛ وإن أنغام الأوركسترا تخترق جسدها الرقيق الممشوق وتمتزج به لتقدَم نمطًا ساحرًا؛ ومزيدًا من الفن الذي يُثري الوجدان ويحرِّك في النفس أسمى المعاني وأنبل المشاعر" .

ويقول التاريخ عنها ـ بتصرف ـ أنها رغم زواجها من راقص الباليه الشهير الفنان ( فيكتور داندري )؛ وقدَّما معًا للعالم أروع الباليهات مثل: دون كيشوت ، وجيزيل، بحيرة البجع ... وغيرها، فإنها لم تنجب أطفالاً، حيث قامت بالتضحية بغريزة الأمومة لديها من أجل فنها، وكانت تعوِّض هذه الغريزة برعاية الأطفال اليتامى في روسيا ومحاولة إغراق نداء الأمومة داخلها في بحر الفن الذي عشقته، ولتنشئ في عام 1920 أحد الملاجئ في باريس لرعاية الأطفال الروس اليتامى، وكانت تغدق على هذا المركز برغم الظروف المالية الصعبة التي كانت تمر بها .

وليس من المستغرب في حياة الفنان المرهف صادق المشاعر؛ أن يكون مختلفًا متفردًا في سلوكياته واهتماماته عن المحيطين به ـ أولم يقولوا: إن الفنون .. جنون؟ بلى .. ولهذا كانت هذه الفنانة مغرمة بالطيور والحيوانات الأليفة واشتهر بيتها في إنجلترا ببحيرة البجع الخرافية التي أقامتها في حديقته؛ والتي كانت تحفة حقيقية استلهمتها من الباليه الشهير "بحيرة البجع " التي قامت ببطولتها ؛ وما زال باليه رقصة بحيرة البجع .. وموسيقى تشايكوفسكي عنوانًا ومدرسة للفن الرفيع في الاتحاد السوفيتي .

ونختتم استعراضنا الخاطف لحياة تلك "الباليرينا"ـ التي عشقت الطيورـ بحديثٍ  ذي شجون، ولكنها مفارقات الحياة ـ وبخاصة حياة الفنان ـ التي انعكست على حياتها القصيرة؛ فالمعروف أن البجعة تشدو بأحلى الأصوات قبل موتها مباشرة، ويطلق على هذه الأصوات الرائعة التي تودَع بها البجعة العالم اسم الأغنية الأخيرة، وكان هذا هو بالتحديد ما حدث مع اّنا بافلوفا، ففي عام 1930 أصيبت بداء الرئة ولكنها أصرَت على ألا تتوقف عن رقص الباليه ، وظلَت تمارس هذا الفن الذي عشقته حتى اّخر رمق في حياتها، والغريب أن موهبتها الفنية التهبت وتألَقت في أيامها الأخيرة وكأنها بجعة حقيقية تودَع العالم الوداع الأخير .

شكرًا .. أكاديمية الفنون المصرية .. منارة الفنون الأصيلة لكل السفن التي تُبحر في عالم الجمال؛ باحثة عن واحةٍ تكون بمثابة "كعبة الفنون" التي يشتاق كل فنان صادق بالحج إليها مع إشراقة شمس كل صباح جديد .