رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ليبيا وأمننا القومى.. بين تركيا وحلف «ناتو»


تركيا العثمانية دخلت الحرب العالمية الأولى بجانب دول المحور «ألمانيا والنمسا وبلغاريا»، ضد الحلفاء «بريطانيا، فرنسا، روسيا، صربيا» أغسطس ١٩١٤، ومنيت بهزيمة قاسية، أجبرتها على توقيع هدنة «مودروس» أكتوبر ١٩١٨.. الأتراك استسلموا فى مواقعهم المتبقية خارج الأناضول، وتم تسريح الجيش العثمانى، والحلفاء سيطروا على مضيقى البسفور والدردنيل، واحتفظوا بحق احتلال أى إقليم عثمانى، واستخدام الموانئ والسكك الحديدية والنقاط الاستراتيجية التركية.. الهزيمة فككت الإمبراطورية العثمانية، وأذلت الأتراك.. مجلس المبعوثين العثمانى «البرلمان» أصدر «الميثاق الملى» فبراير ١٩٢٠، بهدف الاحتفاظ ببعض المستعمرات فى العراق وسوريا.. وجاء أتاتورك فألغى السلطنة نوفمبر ١٩٢٢، وربط التوقيع على المعاهدة بالموافقة على بنود «الميثاق»، لكن الحلفاء رفضوا، وأجبروه على توقيع اتفاقية لوزان المهينة يوليو ١٩٢٣.
منذ صعود أردوغان إلى السلطة ٢٠٠٢، وهو يتطلع نحو التخلص من الشروط المذلة لتسوية ١٩٢٣، ويستدعى صفحات من التاريخ لتبرير أطماعه فى المنطقة العربية.. أمريكا وأوروبا احتوتاه داخل حلف «ناتو»، لكنهما لفظتاه من الاتحاد الأوروبى، فاتجه لـ«المحور الثلاثى» مع روسيا وإيران ٢٠١٥.. رقص على كل النغمات، لكنه خسر الجميع، لأنهم ضد عودة الدولة العثمانية كلاعب رئيسى على الساحة الدولية.. الخلاف على إدلب فكك «المحور»، فعاد يتلمس طريق العودة للتحالف الغربى.. الصراع بين تركيا وحلف «ناتو» حول ليبيا يلخص تلك المعركة المحتدمة «دون ضجيج».
تركيا وقعت اتفاقيتين مع السراج، رئيس ما يسمى «حكومة الوفاق» نوفمبر ٢٠١٩؛ الأولى: بشأن التعاون الأمنى والعسكرى، تمنح أنقرة صلاحيات كفيلة بفرض سيطرتها على المؤسستين العسكرية والأمنية بطرابلس، والثانية: تتعلق بالسيادة على المناطق البحرية، والعبث فى ترسيم الحدود شرق المتوسط.. الهدف الاستراتيجى لتركيا من وراء الاتفاقيات هو دعم جماعة الإخوان والميليشيات المسلحة، باعتبارها أدوات يمكن توظيفها لدعم نفوذها فى ليبيا وشمال إفريقيا، والمزاحمة على غاز شرق المتوسط، والسيطرة على ممراته البحرية، للاحتفاظ بمكانتها كمعبر رئيسى للغاز إلى أوروبا.. أردوغان قدم للسراج دعمًا بالأسلحة والخبراء والمرتزقة.. حاملة الطائرات الفرنسية «شارل ديجول» المبحرة فى المتوسط رصدت فرقاطة تركية، تتولى حراسة سفينة، نقلت آليات مدرعة ورست بميناء طرابلس، حيث تم تفريغ حمولتها.. التدخل التركى أثار غضبًا إقليميًا وأوروبيًا واسعًا.
الصراع التاريخى بين روما والأستانة جسده الغزو الإيطالى لليبيا، إبان خضوعها للولاية العثمانية أكتوبر ١٩١١، هذا الصراع فرضته اعتبارات جيوسياسية، لا تزال قائمة، حتى خلال تورط المخابرات الإيطالية حتى النخاع مع نظيرتها الفرنسية فى عملية الإطاحة بالقذافى ٢٠١١، كانت تركيا تدعم جماعة الإخوان لتأسيس ميليشيات قادرة على اقتناص السلطة، بمجرد سقوط النظام.. عندما فرض الـ«ناتو» حظرًا على الأسلحة التى يمكن نقلها بحرًا إلى ليبيا، وكذا على حركة الطيران العسكرى الليبى، بدعوى حماية المدنيين، كان الدعم التركى يتدفق على الإخوان، مما يفسر معارضة تركيا الحظر، دفاعًا عن مصالحها ضد مزاحمة الدول الأوروبية، وللأسف تجاوز الحلف دوره، وقصف مواقع مدنية، ومنشآت تابعة للدولة، واستمر حتى ٢٠ أكتوبر ٢٠١١، عندما قتل القذافى بسرت، نتيجة قصف الطائرات الفرنسية موكبه.. هذا التجاوز قابل للتكرار.
القلق من تجاوزات الـ«ناتو» يرجع إلى أن الحلف منذ «اتفاق دايتون»، الذى أنهى الصراع المسلّح فى البوسنة والهرسك ١٩٩٥، أصبح ذراعًا لتدخلات الأمم المتحدة، ولقاء غسان سلامة، المبعوث الأممى لدى ليبيا، مع ينس ستولتنبرج، أمين عام الحلف، ١٣ فبراير الجارى، ثم مشاركته فى اجتماعى مجلس الحلف، ومجلس الشئون الخارجية لدول الاتحاد الأوروبى يؤكدان أن الأمم المتحدة قد فوضت الاتحاد الأوروبى بالتعامل السياسى مع الأزمة الليبية، كما فوضت الـ«ناتو» كذراع عسكرية!!.. والأكثر إثارة للقلق هو أن اتفاق الجميع على أنه لا يوجد حل عسكرى للأزمة، يعنى أن الحلف قد يتصدى لتقدم الجيش الوطنى الليبى، لأنه الطرف الوحيد القادر على الحل العسكرى.
ينس ستولتنبرج، الأمين العام للـ«ناتو» أبدى استعدادًا للتدخل فى ليبيا ٢٠ يناير الماضى، بذريعة دعم مراقبة حظر تصدير السلاح، استجابة لقناعة دول الاتحاد الأوروبى بأن مسار برلين للتسوية سيكون دون جدوى، ما لم تشدد المراقبة على حظر الأسلحة ونشاط القوات التى تعمل على الأراضى الليبية.. وزراء خارجية الاتحاد توافقوا من حيث المبدأ فى بروكسل، ١٧ فبراير ٢٠٢٠، على إطلاق الـ«ناتو» مهمة بحرية جوية مشتركة قبالة الساحل الشرقى لليبيا، مع احتمال نشر قوات برية، لمراقبة تطبيق حظر الأسلحة المفروض منذ ٢٠١١.. النمسا اعترضت على القرار، خشية تشجيعه مزيدًا من حركة الهجرة، كما اعترضت المجر بسبب تعاطفها مع السراج، الذى يحرمه الحظر من الدعم التركى، أما إيطاليا فاستنادًا إلى خبرتها فى العملية «صوفيا»، فقد حذرت من أنه إذا أدت المهمة إلى زيادة محاولات الهجرة إلى أوروبا، فسوف يتم تعليق المهمة، لأن السفن العاملة فيها تلتزم بإنقاذ الأشخاص الذين يتعرضون لمخاطر فى البحر، وترسلهم إلى إيطاليا، عملًا بقواعد القانون الدولى، مما يشجع المهاجرين.. صياغة القرار سيتم الانتهاء منها قريبًا لإقرارها أواخر مارس المقبل، خاصة فيما يتعلق بتحديد قواعد الاشتباك، إبان محاولات انتهاك الحظر.
خارجية السراج رفضت القرار.. كما رفضه حزب العدالة والتنمية الحاكم فى تركيا، الذى استنكر عمر تشليك، متحدثه الرسمى، اقتصار المراقبة على البحر فقط، لأن ذلك سيؤدى إلى غل يد أحد الطرفين المتحاربين، بينما يسمح بتدفق الأسلحة للآخر.. وهو يقصد تقييد حرية تركيا فى تقديم الدعم لميليشيات السراج.. روسيا قدرت أن عدوانية الحلف ترجع إلى ما تم تداوله بشأن وجود مقاتلى شركة «فاجنر» الروسية فى ليبيا، مما دعا ميخائيل بوجدانوف، نائب وزير الخارجية، إلى نفى صحة ما ذكره أردوغان بشأن وجود عناصر تابعة لشركات عسكرية روسية خاصة، تعمل تحت إشراف مسئولين عسكريين روس.. كما خرج السكرتير الصحفى للرئيس ديمترى بيسكوف ليؤكد أن بوتين بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة لم يرسل قوات إلى ليبيا، ولم يصدر أوامر تتعلق بالموضوع.. والحقيقة أنها عبارات يصعب وصفها بالكذب، لأن «فاجنر» شركة أمن خاصة، لاعلاقة لها رسميًا بالجيش.. لكنها فى نفس الوقت ليست صادقة، لأن الدولة الروسية تفوضها.. ليبيا ميدان لصراع آخر قادم بين روسيا والـ«ناتو».
دول الـ«ناتو» تعارض مواقف تركيا داخل الحلف؛ فرنسا ترفض سياسة تنويع مصادر السلاح التى تنتهجها أنقرة، لأنها اخترقت أمن الطيران والدفاع الجوى فى أوروبا بصفقة «S-٤٠٠» مع روسيا، ويمتد الخلاف معها لتعريف التنظيمات الإرهابية، حيث توسع تركيا مفهومها ليشمل جماعة فتح الله جولن «حزمت»، وعلى النقيض تتعاون مع جماعات تنتمى لتنظيم «القاعدة» الإرهابى، مثل هيئة تحرير الشام «النصرة».. بلجيكا وهولندا قامتا بتعليق صادرات الأسلحة إلى أنقرة، بعد الاجتياح التركى شمال سوريا.. والبرلمان الهولندى أقر اقتراحًا يقضى بحرمانها من حق استخدام المادة الخامسة من معاهدة الحلف، طالما أنها تقوم بعمليات ضد قوات سوريا الديمقراطية.. أهمية هذه المادة أنها تقضى بأنه فى حالة تعرض إحدى الدول الأعضاء لهجوم مسلح، فإن الأعضاء الآخرين يلتزمون بنظام الدفاع المشترك، ويقدمون لها المساعدات العسكرية اللازمة.. دول الـ«ناتو» تعتبر تركيا عضوًا مارقًا غير موثوق به.

تركيا تمر بحقبة بالغة التأزم؛ حاربت الحلفاء الغربيين فى الحرب العالمية الأولى، فمنيت بهزيمة نكراء.. التحقت بالتحالف الغربى بعد الحرب العالمية الثانية، لكنه لفظها من عضوية الاتحاد الأوروبى.. استخدمها كمخلب قط ضد روسيا؛ فأسقطت المقاتلة الروسية «42-us» واغتالت السفير الروسى، لكنه تخلى عنها، ولم يساندها.. تمكنت من احتواء الأزمة مع موسكو، والتحقت بـ«المحور الثلاثى»، ثم ابتلعت الطعم، واخترقت أمن التحالف الغربى بصفقة «S-400»، التى كان الروس على استعداد لتقديمها كمنحة مجانية، نظير تحقيق ذلك الاختراق.
بعد معركة إدلب، التى وضعت أطراف «المحور» فى مواجهة عسكرية مباشرة مع بعضهم البعض، قامت تركيا بتشوين بطاريات الدفاع الجوى الروسية بالمخازن إرضاءً لـ«ناتو»، وبدأت بحث تفاصيل العودة إلى كنفه، لكن مقدمات المواجهة مع الحلف فى ليبيا تهدد كل ذلك.. الفشل المتتابع يدفع تركيا أردوغان إلى «منحدر الصعود».. طريق نعرف نهايته جيدًا، من تجربة الإخوان فى مصر، ومصير المرشد وزبانيته.