رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حروب يوم القيامة «2»



ليس هناك ما هو أكثر إفادة على إيضاح التوجهات العدوانية الراهنة لإدارة الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» من تفحص مُشتملات اقتراحات الميزانية الأمريكية لعام ٢٠٢١، التى عُرضت خطوطها الرئيسية منذ أيام، وتشمل نفقات بقيمة ٤.٨ تريليون دولار، ارتفعت فيها المُخصصات المطلوبة للبنتاجون، وزارة الحرب، إلى رقم غير مسبوق، تم تدبيرها بفرض استقطاعات كبيرة من حساب ميزانية الخدمات العامة وشبكة الأمان الاجتماعى.
فقد تم تخصيص ٧٤٠.٥ مليار دولار أمريكى للنفقات العسكرية فى العام المقبل، إضافة إلى زيادة مخصصات وكالة أبحاث الفضاء الأمريكية «ناسا»، بما قيمته ثلاثة مليارات دولار، أى رصد أكثر من مليارى دولار مع مطلع كل شمس، للإنفاق على الاستعدادات الحربية، وهى أكبر ميزانية عسكرية على مر الوجود الإنسانى، خاصة إذا وضعنا فى الاعتبار أن أمريكا لا تخوض حربًا أو حروبًا معلنة، ولا تواجه تحديات ومخاطر فعلية، تبرر هذا الإنفاق الهائل على تطوير أشرس آلة حرب عرفها التاريخ.
وبالطبع، فقد لجأت إدارة «ترامب» للجور على مُخصصات الإنفاق الخدمى، فقلصت النفقات غير الدفاعية بنسبة ٥٪، وخفضت مُخصصات دعم أسعار الدواء للمواطنين بما يوازى ١٣٥ مليار دولار، فضلًا عن إحداث استقطاعات فى برامج مساعدة الأمريكيين الفقراء، «كوبونات الغذاء والمساعدات الطبية لغير القادرين»، قدرها ٢٩٢ مليار دولار، رغم وعوده المتكررة بألا مساس فى عهده بميزانية الرعاية الصحية للأمريكيين. وفى مقابل ذلك، ولكى يضمن دعم وولاء النخبة بالغة الثراء من الأمريكيين، فقد تبنى خفضًا للضرائب على الشركات، وتخفيفًا للأعباء الضريبية على الطبقات الميسورة، بما يصل إلى تريليون و١٥ مليار دولار.
ويُساير هذا التوجه العنصرى العدوانى لإدارة «ترامب»، تخصيص مليارى دولار لبناء الجدار الحدودى العازل للولايات المتحدة عن باقى الدول المجاورة، والسعى لتخفيض المساعدات الخارجية بنسبة ٢١٪ «كانت ٥٥.٧ مليار دولار، وأصبحت ٤٤.١ مليار»، والهدف الذى يكمن خلف هذا التوجه هو توفير ميزانيات وفيرة، ستوجه لمجابهة التهديدات الاقتصادية المتنامية من الصين وروسيا، وقد أثرت هذه الخطة على قدرة «ترامب» على الوفاء بالوعد الذى قطعه على نفسه فى أعقاب انتخابه، بالقضاء على عجز الميزانية الفيدرالية خلال ١٠ سنوات، وقدم «وعدًا» بديلًا بتأجيل خفض عجز الموازنة، البالغ ٤.٦ تريليون دولار، بحلول عام ٢٠٣٥، أى متأخرًا عن موعده المضروب بأكثر من عقد كامل! من جهة أخرى، أعلن «ترامب» عن أن الولايات المتحدة بطريقها لأن «تنشئ أعظم قوة نووية فى العالم»، فى ظل غياب اتفاق مع روسيا والصين فى مجال الأسلحة النووية. كذلك فقد أصدرت الإدارة الأمريكية «استراتيجية مكافحة التجسس» الجديدة، للأعوام «٢٠٢٠-٢٠٢٢»، والتى اعتبرت أن الصين وروسيا تمثلان الخطر الأكبر، على الوجود والمصالح الأمريكية، تليهما إيران وكوريا الشمالية، كما شملت مصادر التهديد فى هذه الاستراتيجية كلًا من كوبا و«حزب الله»، ومنظمتى «داعش» و«القاعدة» الإرهابيتين، «وهما بالمناسبة صناعة أمريكية فى الأساس»!
وفى سياق موازٍ شارك «مارك إسبر»، وزير الدفاع الأمريكى، فى تدريب عسكرى، بمقر القيادة الاستراتيجية الأمريكية فى أوماها، بولاية نبراسكا، منذ أيام، تم فيه تبادل الضربات النووية مع روسيا. وكان الرئيس الأمريكى قد طالب الكونجرس بالموافقة على تخصيص ٤٤ مليار دولار لشراء أسلحة نووية جديدة، تسهم فى تعزيز الترسانة الأمريكية الحالية. ولم يتوان وزير الخارجية الأمريكى، «مايك بومبيو» عن دق طبول الحرب، فشن هجومًا عنيفًا، فى «مؤتمر ميونيخ للأمن»، على كل من روسيا والصين، معتبرًا أن وجودهما ذاته: «تحديًا للقيم الغربية»، وهو ما رفضه الرئيس الفرنسى «ماكرون»، الذى صرح بأن «سياسة التحدى التى انتهجتها أوروبا، فى التعامل مع موسكو، على مدار السنوات الماضية باءت بالفشل»، وأنه «لم يلمس لدى أى من الحلفاء الاستعداد لمواجهة روسيا»، طارحًا خيارًا آخر، هو: «المُطالبة بالحوار واستئنافه، لأننا لا نتحدث كثيرًا هذه الأيام، فيما تتزايد الصراعات ولا نتمكن من حلها».
إن التفسير الأساسى لتسعير نيران الخلافات الدولية على هذه الشاكلة، والتهديد بإشعال «حروب يوم القيامة» التى لن تترك لا أخضر ولا يابسًا، هو الشعور العميق لدى سدنة الرأسمالية الاحتكارية العالمية، بأن الرأسمالية المعولمة المتوحشة، فى طبعتها «النيو ليبرالية»، قد استفحلت أزماتها، وأصبحت عصيّة على العلاج، ولذا فإن تصدير الأزمات للخارج، والتحرش بالدول الأجنبية، ومحاولة استفزازها، ودفعها لسباق تسلح جديد يستنزف مقدراتها، على غرار ما حدث مع الاتحاد السوفيتى السابق، ويصب تريليونات الدولارات مُجددًا فى خزائن المجمع الصناعى العسكرى، هى وصفة مكشوفة لدفع تأثيرات الأزمة، ومغامرة خطرة قد لا تتكرر وقائعها مرة أخرى.