رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إحياء شباب القارة السمراء يبدأ بالأمن


عقيدة السمع والطاعة لم تستهوِ مصر عبر تاريخها العريق، ولا اعتمدته ضمن مسارات إدارة سياساتها على الصعيدين الداخلى أو الخارجى. لم تحتمل الشخصية المصرية محاولات «جماعة» فرض هذه العقيدة التى تعتنقها مذهبًا على طبيعة نسيجها القومى، فانتفض عام ٢٠١٣ فى مشهد رفض شعبى هائل لينهى بحزم هذه المحاولات «الشاذة» للمساس بحضارة ٧ آلاف عام.

تبنّى القيادة المصرية الدعوة إلى مواقف محددة، سواء دوليًا أو عربيًا، لا يأتى من فراغ أو سعى وراء دور، هى نجحت عبر السبع سنوات الماضية فى استعادة قوة تأثيرها دون اللجوء إلى متاجرات إعلامية تنتهجها أنظمة فقدت صلاحية التأثير أو أخرى تحاول تعويض عقدة نقص ضآلتها بالبحث عن أى تواجد. دعوة مصر إلى تأسيس قوة عسكرية إفريقية لمحاربة الإرهاب، فى ختام فترة رئاستها الاتحاد الإفريقى، إضافة إلى دعواتها السابقة إلى إنشاء قوة دفاع عربية مشتركة، تعكس قراءة واقعية واستشرافًا منطقيًا للتحديات التى تهدد الاستقرار الأمنى، سواء فى المنطقة العربية أو القارة السمراء. عمليات التصدير الجماعى لمقاتلى التنظيمات الإرهابية التى يقودها النظام التركى لم تعد تتم سرًا فى مقابل خطوات متثاقلة من المجتمع الدولى، رغم اعترافه بضلوع تركيا فى هذه العمليات المشبوهة، مع عدم فاعلية عمليات قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة فى التصدى لتمدد هذه الجماعات على مدى منطقة الساحل الإفريقى، ما أدى إلى تزايد خطر الإرهاب فى دول مثل السنغال، موريتانيا، بوركينا فاسو، مالى، والنيجر.

تفاقم الدور التركى فى نقل بؤرة الإرهاب، تحديدًا النشاط الأساسى لتنظيم داعش، من نطاقه الرئيسى على حدودها مع سوريا والعراق إلى إفريقيا، سواء شمالها أو المنطقة الصحراوية، إذ يحتفظ النظام بعلاقات مميزة مع «تنظيم الشباب» و«بوكو حرام» فى الصومال ونيجيريا، وغيرهما من التنظيمات المنتشرة فى القارة، بالإضافة إلى وجود ما يزيد على ألفين من مقاتلى داعش فى تركيا يعملون على إعادة إحياء التنظيم.

من المنتظر أيضًا دخول أمريكا على الخط بعد إعلانها عن تشكيل تحالف جديد ضد الإرهاب، خلال شهر نوفمبر المقبل، يركز على إفريقيا ويهدف إلى مضاعفة الضغط على داعش خارج مناطق تواجده الأصلية، حيث سيكون مركز عمليات هذا التحالف غرب إفريقيا ومنطقة الساحل.

فى ظل تزايد نشاط الأنظمة الداعمة للإرهاب ونقل مركزه إلى إفريقيا، مقابل استمرار الموقف الدولى داخل دائرة النقاش والمماطلة، لن يفاجأ العالم بداعش مطورًا وأكثر وحشية يتخذ من أى دولة إفريقية تفتقد الاستقرار الأمنى مركزًا له، ثم يتمدد نشاطه إلى سائر دول القارة وفق نفس ما انتهجه سابقًا. دعوة مصر، بحكم أمانة قيادتها الاتحاد الإفريقى، استندت إلى رؤية تؤكدها وقائع وإشارات عن مخاوف تحول إفريقيا بشمالها وجنوبها- وهى القارة التى تتكالب عليها القوى الدولية- إلى ميدان اقتتال وعمليات إرهابية خلال العقد المقبل، كمنطقة محورية فى إعادة رسم الخريطة الدولية لانتشار الإرهاب. كل قراءات المشهد الإفريقى تتجه بقوة نحو تفسير محاولات النظام التركى إيجاد ثغرة فى الجسد الإفريقى، تبدأ من طرابلس لتنفذ إلى عمق باقى الدول الإفريقية، بالتوازى مع حضور قوى لورقة «المساومات» فى المغامرات التركية الطائشة التى أعلنت عن نفسها عبر تهديدات أردوغان المتكررة للمجموعة الأوروبية، بفتح شواطئ البحر المتوسط أمام الهجرة غير الشرعية فور استقرار وتمكن مجموعاته الإرهابية على الشواطئ المقابلة لأوروبا، تحديدًا فرنسا وألمانيا وإيطاليا. النظام القطرى، فى إطار الهرولة خلف الأوراق الخاسرة كدولة صغيرة لا تملك مقومات الانفراد بدور إقليمى، تمسك بذيل المخطط التركى عبر مسارين: الأول، تمويل التنظيمات الجهادية فى مختلف دول القارة، وهو ما وثقته عدة تقارير رسمية غربية. الثانى، عن طريق تقديم مساعدات عسكرية لدول قد تمثل مواقع ضغط عبر البحر الأحمر على مصالح مصر والسعودية والإمارات، علمًا بأن جميع التحركات القطرية داخل القارة اتخذت طبيعة سرية واستخباراتية. المقترح المصرى دعمته دعوة إلى عقد قمة إفريقية فى القاهرة قريبًا، لوضع آليات تشكيل قوة إفريقية مشتركة وتنفيذها فى وقت قريب لمواجهة تحركات سريعة من الأطراف الداعمة للإرهاب تهدف إلى دعم وغرس تنظيمات جهادية داخل القارة لم تعد تحتمل المماطلات، أو سوء تقدير فى قراءة المشهد الإفريقى من جانب المجتمع الدولى.

فى السياق ذاته، تكررت دعوات الرئيس السيسى لأهمية تشكيل قوة عربية مشتركة تفعيلًا لمعاهدة الدفاع العربى المشترك، التى تم التوقيع عليها منذ عام ١٩٥٠. القيادة المصرية تراقب بحكمة كل إشارات التطورات المتلاحقة التى طرأت على المشهد العام للمنطقة العربية. الواقع تمخض عن تبدل الشارع بين حالات مختلفة، حيث أصبح أكثر حساسية تجاه مطالبه وحقوقه، فى إطار انحياز إلى مؤسسات الدولة الوطنية والأمنية بعدما أسفرت التدخلات الإقليمية والدولية عن نتائج كارثية. على الصعيد الآخر، التطور الأيديولوجى الذى اعتمدته التنظيمات الإرهابية كمسار لها وتحولها من صورة النمط التقليدى، فى محاولة إخفاء وجه أطماعها القبيح تحت أقنعة تبدو أكثر قبولًا لدى الغرب مثل حقوق الإنسان، تعمد الخلط أو إلغاء الفواصل الواضحة بين أوراق الإرهاب، المقاومة المشروعة، المعارضة، بما يخدم أغراضها المشبوهة، حال لم يعد قطعًا يحتمل من الطرف العربى الاختيار الذى تمسك به عبر العقود الماضية، مكتفيًا بالبقاء ضمن صفوف المتفرجين، إذ تفرض تطورات أحداث المنطقة يوميًا ضرورة العمل على تشكيل منظومة أمنية مشتركة خاصة أن كل ملفات التحديات ما زالت مفتوحة أمام الأطماع والمصالح، سواء كانت إقليمية أو دولية.