رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أيام مرسى.. عام الصدمات


من منّا يمكن أن ينسى أحداثًا أكثر من ٤٠ يومًا وليلة سوداء، احتلت «نعم، هو احتلال غاشم مسلح مخالف لكل القوانين» فيها جماعة البشاعة والتخلف وجنون زعامات أهل إراقة الدماء الإخوانية، ميدانى رابعة العدوية بالقاهرة ونهضة مصر بالجيزة، بادعاء أنها فى حالة اعتصام سلمى معارض، فى مقابل خروج ٣٠ مليون مواطن إلى ميدان التحرير وكل ميادين وشوارع مصر المحروسة، رفضًا لحكم عصابة لم تعرف «يعنى إيه معنى كلمة وطن»، وسعيًا إلى إزاحتها بعدما سرقت شعبًا فى غفلة من الزمان هى الأغرب فى تاريخنا.
كان حلمها اختطاف الدولة إلى بشاعات سلب الهوية المصرية، وتابعنا تهديد زعامات الزمن الأسود وأمراء الدم، صفوت حجازى وعبود الزمر ومحمد البلتاجى، الدولة والمواطنين من داخل الاعتصام، واعترف أحمد المغير وغيره بأنه كان اعتصامًا مُسلحًا، وأكدت مصادر أن أجواء الاعتصام وخيامه شهدت دورات مكثفة فى إطلاق النار وإعداد المتفجرات والتحكم فيها عن بُعد، وتأكد الأمر لاحقًا بانضمام عشرات من أعضاء الإخوان وحلفائها إلى تنظيم داعش، وتدشين حركتى «حسم» و«لواء الثورة» اللتين أدارهما الجناح المسلح وقائده الحركى محمد كمال، عضو مكتب الإرشاد عن الصعيد، الذى قُتل فى مواجهة مسلحة مع الأجهزة الأمنية خلال أكتوبر ٢٠١٦، ولا تزال الأدلة تتواصل مع كل جريمة أو استهداف للدولة والشعب.
إن ما حدث فى «رابعة» و«النهضة»، وتأخر قرار الفض وتبعات ذلك التأخر من خسائر بشرية وجرائم إنسانية، وأمام مشاهد ومشاهدات مروعة، يمكن اعتبار اعتصام الإخوان فى رابعة العدوية أخطر بؤرة إرهابية، وأكبر تجمع إجرامى فى تاريخ مصر، وفى ضوء تلك الحقيقة التى أكدتها الصور والفيديوهات والتسجيلات وصحيفة السوابق الممتدة، فإن تجفيف تلك البؤرة ليس مجرد إجراء أمنى بسيط يتحدّون فيها سيادة الدولة بالخروج على القانون فى قلب عاصمتها.
تذكرت أحداث تلك البؤر الإرهابية وكيف لم يتناولها الإعلام والدراسات السياسية والاجتماعية بالشكل المناسب والموضح لبشاعة الممارسات الإرهابية مع أهل وسكان تلك المناطق وما حولها، أسعدنى أن أطالع الكتاب المهم والرائع «أيام مرسى.. كتاب الصدمات» للكاتب والإعلامى الأكاديمى الوطنى د. محمد الباز.. نعم وأسعدتنى مبادرة الكاتب بتوثيق أحداث ذلك العام الأسود، حتى لا ينال نصيب ذلك القدر من التجاهل النسبى لعرض كوارث أحداث الاعتداء على أهل وسكان «رابعة» و«النهضة».
عن اللحظات الأخيرة فى حياة الرئيس المخلوع والتى كانت أثناء حضوره جلسة محاكمته فى قضية التخابر مع منظمة أجنبية، يكتب «الباز» ويذكرنا أن النائب العام كان قد أصدر بيانًا موثقًا فيه هذه اللحظات، وجاء فى البيان أنه «أثناء وجود المتهم محمد مرسى العياط وباقى المتهمين داخل القفص سقط مغشيًا عليه»، وتم نقله فورًا للمستشفى، وتبين وفاته، وقد حضر للمستشفى متوفى فى تمام الساعة الرابعة وخمسين دقيقة مساءً، وقد تبين عدم وجود إصابات ظاهرية حديثة لجثمان المتوفى.
على أثر هذه الكلمات بدأت جماعة الإخوان الإرهابية بالإشارة إلى أنه قتل جراء الإهمال الطبى، دون أن تلتفت إلى ملف العياط الصحى الملىء بالأمراض الصحية حتى من قبل دخوله إلى قصر الاتحادية، فقد كان يعانى من ارتفاع ضغط الدم وارتفاع السكر والتهاب مزمن بالأعصاب، بجانب ورم حميد بالأوعية المبطنة بالمخ، وتشنجات عصبية بالجانب الأيسر من الوجه، بناءً على التقرير الطبى المعتمد من رئيس جامعة الزقازيق فى ٢٣ يناير عام ٢٠٠٨، وروشتة صيدلية «أختر» بإنجلترا والتى أرسلها العياط لجامعة الزقازيق لمد إجازته، وتفيد بأنه قد خضع للعلاج من «فيروس سى» وأنه بفترة نقاهة جراء عملية استئصال ورم من المخ.
ومن هذه الأدلة استنتج الكاتب أنه ما كان ترشح العياط من الأساس للانتخابات الرئاسية، إلا لاعتقاد الجماعة بأن مرشحهم الأساسى «خيرت الشاطر» فى انتخابات الرئاسة حتمًا سيحسم الأمر لصالحه، وهو ما مثّل استهتارًا واستهزاءً بالشعب المصرى.
واختتم الكاتب هذا الفصل من حياة الرئيس المخلوع، باستنتاجه القائم بأن الوفاة المفاجئة للعياط كانت ذات أهمية لدى جماعته، ليس لشخصه، ولكن لما يمثله من رمزية فى الصراع السياسى القائم، فوجوده معناه أنه لا يزال هناك أمل، فيمكن أن يأتى يوم وتنقلب الأوضاع، وحينها سيكون بالنسبة لهم الرئيس الشرعى، الذى سيخرج من السجن إلى الحكم. ولذلك لم يكن شعار «مرسى راجع» شعارًا من فراغ، ولكنه كان يؤسس لطبيعة المعركة، ومحاولة لخداع أتباع الإخوان بأنهم لم يستسلموا، والدليل أن رئيسهم لا يزال يقاوم من محبسه، وقد أدى مرسى كل ما عليه. ففى كل جلسة من جلسات محاكمته التى امتدت لسنوات، كان يصر على أنه لا يزال رئيسًا للبلاد. فعلى الرغم من وفاة مرسى وأنها كانت قدرًا، إلا أنها كانت ضربة قاصمة لظهر الجماعة التى كانت تتعامل معه على أنه مجرد ورقة سياسية تلعب بها وتوظفها كما تشاء.
يذكر الباز هنا أن العياط لم يكن رئيسًا مصريًا، بل كان مجرد رئيس لجماعة بعينها دخل قصر الاتحادية لينفذ أفكار جماعته التى حلم أنها ستحكم مصر ٥٠٠ عام، وهذا ما قاله نصًا لوزير الدفاع عبدالفتاح السيسى حينها. وكان الإخوان يركنون فى ذلك إلى ما قاله مرشدهم الثانى حسن الهضيبى عام ١٩٥٤: «إذا وُلينا الحكم لن نتخلى عنه أبدًا». وفى حوار مع الهضيبى سُئل عن الإصلاحات التى يراها مناسبة للنظام الجديد، أجاب: «الصلة بين الحاكم والمحكوم مبنية على أساس علاقتهما بالله عز وجل، أى على أساس روحى، لا على اعتبار أنها مجرد نظام مادى، وهذا الجانب الروحى هو الذى يجب أن تستند إليه فى كل ما تهدف إليه من صلاح، لأن كل إصلاح لا يقوم على ما يقتضيه من هذه الناحية، فمصيره حتمًا إلى الانهيار».
وفى مشهد آخر يوثقه «د. الباز» وهو حصار المحكمة الدستورية العليا من قبل ٥٠٠٠ إخوانى، وذلك فى محاوله للضغط عليها للعدول عن قرار حل مجلس الشعب وقتها. ولم يكتف المتظاهرون بالحصار، بل أقاموا منصة أمام بوابتى الدخول ووضعوا مكبرات صوت فى كل مكان لإعلان تأييد إعلان مرسى الدستورى. وحينها كل ما فعله سعد الكتاتنى، رئيس مجلس الشعب حينها، دعوة أتباع جماعته بالتزام القواعد التى يحددها القانون، وكانت رؤيته للمظاهرة أنها سلمية.
المجال بالطبع لا يتسع لعرض المزيد من تفاصيل الأيام الأخيرة للحاكم «الاستبن»، كما عرض لها كاتبنا برؤية جديدة للأحداث، مختلفة عن عرض أهل التوثيق والتأريخ، فالكتابة الصحفية والإعلامية باحتراف لتغطية الأخبار تبقى لها من السخونة والتلامس، مع المشاعر والحضور الفاعل لدى المتلقى، ما يجعلها قادرة على تشكيل رأى عام عبر خبرة فى تحليل وقراءة الأحداث.. ولعلنا نجد فى القريب إصدارًا آخر لكاتبنا المبدع لتغطية كارثة بؤرة الإرهاب «رابعة العدوية»، على الأقل ليشفى غليل سكان تلك المنطقة وما وجدوا من الإعلام من يسمع لحكاواهم الصعبة.