رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خيرًا أن تكون بلا رأس


ولد القدّيس يوحنّا المعمدان «النبى يحيى» من والدين تقيّين وهما «الكاهن زكريا» و«أليصابات»، «Elizabeth»، التى كانت عاقرًا. ويوحنّا اسم عبرى مؤلّف من كلمتين: «يهوه» أى الله و«حنان» أى الرأفة. وقد وُلد القديس يوحنا المعمدان قبل ميلاد السيد المسيح بستة أشهر. كانت حياته مثالًا للنبى الحقيقى فى الزهد والتقشف والحزم. كان فى الحقيقة رجل الله، فكان يحرص على التكلم بالحق بشجاعة دون خوف، لأنه لم يكن يطلب شيئًا لنفسه.

عندما وُلد الطفل يوحنّا انتشر الفرح بين سكان المنطقة وأقارب العائلة، وفى حفلة ختان الطفل التى تتم وفق الشريعة اليهودية فى اليوم الثامن لميلاده، والتى خلالها يُمنح اسمًا، طلب أفراد العائلة أن يسموه زكريا على اسم أبيه، إلا أن «أليصابات» اعترضت وطلبت أن يُسمى «يوحنّا»! فأبدى الحضور استغرابهم لعدم وجود أحد فى العائلة بهذا الاسم، وسألوا زكريا عن رأيه فى الموضوع، فأخذ لوحًا وكتب عليه «اسمه يوحنا»، تمامًا كما طلب منه الملاك جبرائيل حين ظهر له فى الهيكل، وفى الحال- كما ورد فى إنجيل القديس لوقا- انفتح لسان زكريا وتكلم مباركًا الله، وردد نشيدًا يصفه علماء الكتاب المقدس باسم «نشيد زكريا»، استرجع خلاله زكريا ملخصًا لتاريخ بنى إسرائيل مُذكّرًا بعظمة أعمال الله من إبراهيم و«إلى الأبد»، ثم تنبّأ لابنه: «أنت أيّها الطفل سوف تُدعى نبى العلىّ، لأنك ستتقدم أمام الرب لتعد طرقه. لتعطى شعبه المعرفة بأن الخلاص هو بمغفرة خطاياهم، بفضل عواطف الرحمة لدى إلهنا، تلك التى تفقدنا بها الفجر المُشرق من العُلى». وقد تحولت حادثة مولد يوحنّا إلى موضع الحديث فى جبال اليهودية، كما ورد فى إنجيل القديس لوقا، وكان الناس يتساءلون حول مستقبل هذا الطفل: «فقد كانت يد الله معه». يقول إنجيل القديس لوقا إن يوحنا بدأ نشاطه العلنى فى السنة ١٥ من حُكم «طيباريوس» الملك، ومن الثابت تاريخيًا أن طيباريوس أصبح إمبراطورًا عام ١٤، هذا يعنى أن يوحنا المعمدان قد بدأ نشاطه بين عامى ٢٨ أو ٢٩، ويُسمى فى النص الإنجيلى «يوحنا بن زكريا» ويقول إنه انتقل من البرية إلى النواحى المحيطة بنهر الأردن، ومن هناك «أخذ ينادى بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا»، ويضيف إنجيل القديس متّى تفصيلًا آخر: «كان يوحنا المعمدان يبشر قائلًا: (توبوا فقد اقترب ملكوت السموات)» وهو بذلك، كما ورد فى إنجيل متّى ومرقس ولوقا ويوحنا، يحقق النبوءة التى وردت عنه فى سفر أشعياء النبى: «صوت منادٍ فى البرية، أعدّوا طريق الرب واجعلوا سبله مستقيمة. كل وادٍ سيُردم وكل جبل وتل سينخفض وتصير الأماكن الملتوية مستقيمة، والأماكن الوعرة طرقًا مستوية، فيبصر كل البشر الخلاص الإلهى». وحسبما ورد فى الإنجيل، فإن نشاط يوحنا نال صدى وتجاوبًا فى تلك المناطق فتقاطرت إليه الجموع طالبة التوبة، حتى خرج إليه أهل أورشليم ومنطقة اليهودية كلها وجميع القرى المجاورة للأردن، وبعضهم وفد إليه بدافع الفضول، خصوصًا أن صفات يوحنا كانت غريبة، فقد كان يلبس ثوبًا من وبر الجمال ويشد وسطه بحزام من جلد ويأكل الجراد والعسل. أيضًا فإن من العناصر التى أسهمت فى جذب الناس نحو يوحنا، كما يقول النقاد، هو هجومه العنيف على الملك هيرودوس أنتيباس والقادة الدينيين من فريسيين وصدوقيين، وإظهاره أخطاءهم على العلن وحاجتهم للتوبة كعامة الشعب، وذلك كان جسارة كلفته حياته لاحقًا. تزوج الملك هيرودوس من «هيروديا» زوجة أخيه، وكان ذلك مخالفًا للشريعة اليهودية بل للشريعة الإنسانية. وكان هيرودس يخاف يوحنّا، إذ قال له إنه لا يجوز زواجه بزوجة أخيه فهذا لا يحل له، لذلك قام هيرودوس بسجن يوحنا وكانت «هيروديا» حاقدة على يوحنا بسبب ذلك. وفى عيد ميلاد الملك هيرودوس دعا العظماء وكبار القوم فى المملكة لعشاء فاخر، ودخلت ابنة هيروديا واسمها «سالومى» لترقص فسُرّ هيرودوس الملك والمتكئون معه، وقال الملك لها اطلبى ما تشاءين وسوف يتحقق حتى ولو نصف مملكتى، وأقسم على هذا أمام الجمع. فذهبت الصبية إلى أمها وتشاورت معها وطلبت «رأس يوحنا المعمدان على طبق»، فحزن الملك جدًا لأجل القسم. وأرسل الملك سيافًا وأمره بأن يأتى برأس يوحنا. وأتى برأسه للصبية، والصبية بدورها أعطته لأمها «بنفس أسلوب جماعة داعش الإرهابية الشريرة»، وظنت هيروديا أنها تخلصت من الصوت المنادى بالحق والموبخ للضمير. واعتقدت المرأة الشريرة والملك الفاسد أنه بموت المعمدان ستهدأ الأمور، لكن صوته فى أذنيهما- ولأجيال كثيرة- ما زال يرن بقوة «لا يحل لك»، وما زال يتردد صدى تلك الكلمات فى أذن كل مسئول يحيد عن الحق ويخالف قوانين الكنيسة المقدسة، ويقسو على اليتيم والأرملة والضعيف والمحتاج، ويكتنز كنوزًا من أموال الغير وهو غير عابئ بجرم ما يفعله، لكن الصوت ما زال يدوى «لا يحل لك». وبذلك مات يوحنا المعمدان بعدما يقارب السنتين على بداية تعليمه العلنى، وعندما سمع تلاميذه بموته جاءوا وأخذوا رفاته ووضعوه فى قبر. وورد فى العهد القديم أن مكان دفنه هو السامرة، وتوجد رفاته الآن فى كنيسة القديس «سلفستر» فى روما، فى حين يوجد رأسه فى ضريح بالمسجد «الأموى» فى دمشق، وفى زيارة لى لمدينة دمشق فى يناير ١٩٩٦ قمت بزيارة المسجد، وكنت مهتمًا جدًا بزيارة ضريح النبى يحيى «يوحنا المعمدان» النبى الشجاع. والكنيسة القبطية- طبقًا لتقويم الشهداء أو التقويم القبطى الصحيح- تحتفل بذكرى استشهاده فى ٢ توت الموافق «١٢١٣ سبتمبر» من كل عام، لتعيد على مسامع أبناء الكنيسة- وخارجها أيضًا- صوت الحق، لكن من يسمع؟ ولروعة أعمال وحياة المعمدان وصفه أحد آباء الكنيسة فى القرون الأولى بقوله: «الرجل الذى آثر أن يكون بلا رأس، من أن يحيا بلا ضمير»، هذا هو ملخص حياة المعمدان. وقد تم حفر تلك الكلمات الذهبية على لوحة خشبية، وهى مُعلقة عند مدخل دير البراموس العامر بوادى النطرون، ليطالعها الزائر ويتعلم الدرس. كم عدد الذين- من بيننا- يحيون بلا ضمير؟ ويخشون كلمة الحق، لأن الضمائر ماتت. حتى الذين يُقال عنهم- للأسف الشديد- «يفصّلون كلمة الحق باستقامة»! أين كلمة الحق التى يتحدثون عنها؟ لقد أصبحوا أمثلة رديئة فى الشهادة بالحق، فوقعوا فى حفرة الرياء والنفاق والكذب والخداع.. إلخ، وهم لا يعلمون أنهم يحفرون لأنفسهم آبارًا ليست بها مياه، فصاروا قدوة سيئة لشعبهم. وكما يقول أحد الحكماء: «إن الإنسان يسلك برياء إن كان هناك أمر يود أن يخفيه». فى عصرنا الحالى وقف غاندى، الإنسان الفقير فى المال والملبس والمأكل، أمام جبروت المملكة البريطانية حتى أجبرها على الانسحاب من بلاد الهند. ووقف جمال عبدالناصر، الفقير ولكنه الغنى فى وطنيته، أمام الاحتلال البريطانى أيضًا حتى أرغمهم على الانسحاب. ووقف المستشار «ممتاز نصّار» فى وجه المهندس «سيد مرعى» رئيس مجلس الشعب عندما قال: «أنا المجلس»! وهنا ثار سيادة المستشار ومعه المجلس كله واضطر المهندس مرعى للاعتذار. وفى يونيو ٢٠١٥ وقف أسقف شجاع فى وجه أسقف الإسكندرية- وقت انعقاد المجمع- عندما قال: «أنا المجمع»! فما كان من أعضاء المجمع سوى أن انحازوا فى صف الأسقف الشجاع ورفضوا تلك التصريحات غير المسئولة والخالية من أى روح ومودة، ولم يعتذر أسقف الإسكندرية! كونوا شجعانًا ولا تخشوا قول الحق. سيمضى الإنسان إلى التراب، أما كلمة الحق فستظل قائمة لترشد الكثيرين إلى الطريق الصحيح.