رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اكتشافات فنية مدهشة جدًا


الأدب والفن اكتشاف فكرى، خذ مثلًا ديوان «شلح هدومك يا زمن» الذى نشرته مؤخرًا شاعرة شابة وتقول فيه: «شلح هدومك يا زمن.. واجرى بعيد.. ليا لسان وودان وعين.. وليا إيد»!، ولولا الفن ما كنت لأتخيل أن للشاعرة يدًا ولسانًا بل ودنًا وعينًا كمان! فهل هذا قليل؟ ولما كان الشعر يكتفى بالإيحاء، فإن القصيدة لم تأتِ على ذكر الصدغ والقفا، إذ يفهم من روح الشعر العامة أن ذلك كله متوفر.
هناك أيضًا الرواية التى صدرت بعنوان «مبروك يا مدام.. جوزك حامل» التى تكرر فكرة فيلم رأفت الميهى «سيداتى آنساتى» الذى ظهر منذ عشرين عامًا، ولا يهم إن كانت الفكرة معادة أو مستهلكة، المهم أن يكون العنوان لافتًا. وطالما أننا فى زمن «شلح هدومك»، فلا بأس من ظهور روائى شاب عمره ١٥ سنة فقط يضع إعلانًا فى فيسبوك يقول فيه: «أنا.. عندى ١٥ سنة وبنشر أول رواية ليا فى معرض الكتاب باسم فالصو، الرواية بتتكلم عن أحداث المجتمع اللى إحنا فيه»، ولا شك أن روائيًا لم يستخرج بعد بطاقة شخصية أو رخصة قيادة، هو أدرى الناس بأحداث المجتمع «اللى إحنا فيه»، بحكم خبراته والحياة التى عاشها.
وإذا كان الشعر والرواية يكتشفان العالم، فإن الصحافة أيضًا تقوم بدورها فى ذلك المجال، إذ نقرأ تحقيقًا صحفيًا عن فانلة المطرب محمد فوزى، وكيف أن زوجته الفنانة مديحة يسرى ألبسته إياها بالمقلوب خصيصًا، فلما عاد إلى بيته ووجدت الفانلة بالمعدول تأكدت أنه يخونها! طيب.. كيف علم الصحفى بموضوع الفانلة؟ هل فضفضت معه مديحة.. أم باح له بالسر محمد فوزى؟
هذا لا يهم. المهم الضجة والعناوين والظهور والحضور وإجبار الزمن على التعرى. وإذا كان لدور النشر، ومعظمها لا يبحث إلا عن الربح، دور فى تضخيم الفراغ، فإن هناك أسبابًا أخرى، أعمق وأبعد من قوانين السوق التى تحكم الثقافة. سبب رئيسى يتضح عندما يؤمن أديب شاب بعبارة للكاتب البرتغالى «فرناندو بيسوا»، ويستشهد بها كدليل يقوده: «لماذا الفن بهذا الجمال؟ لأنه لا غاية من ورائه، ولماذا الحياة بهذا القبح؟ لأنها مليئة بالغايات والأغراض والأهداف».
وتبدو العبارة لامعة بقدر ما هى مضللة، إذ إن السر فى جمال الفن لا يرجع إلى أنه بلا غاية، بل إلى طبيعة الفن الخاصة التى لا تنفى ارتباطه بغايات محددة، فى مقدمتها تعميم التجربة الروحية لخلق قاسم مشترك بين البشر، وتعميق شعورنا وفهمنا للحياة، والارتقاء بالحس الجمالى، وبلورة وعينا وموقفنا مما يدور حولنا.
يثبت تاريخ الفن كله منذ نشأته أن الفن ارتبط بغاية وبهدف، حتى التراتيل فى الكنائس كانت بهدف جذب الناس إلى الإيمان، كما أن الكتب المقدسة كلها تقوم على الإيقاع الشعرى بنفس الهدف. وإذا كانت كل أنواع الفنون عمليات تشتمل بالحتم على مبدع، ومتلقٍ، وأنه لا وجود للفن إلا بحضور الآخرين، فإن ذلك يعنى أن الفن يستهدف طرفًا آخر.
أما قول «فرناندو بيسوا» إن الحياة قبيحة لمجرد أنها مليئة بالأغراض، فإنه يندرج تحت باب العبارات اللامعة والفارغة فى آن. فالحياة هبة لا تتكرر، عامرة بالحب والتفكير، ولا يعيب الحياة أن تكون لكل شىء فيها وظيفة وهدف وغرض، ومعظم هذه الأغراض نبيلة تتعلق بتواصل الحياة وتدفقها. ليست قوانين السوق وحدها السبب فى الاكتشافات الفنية من نوع أن للشاعرة أنفًا وحاجبًا، أو أن شابًا عمره ١٥ سنة سيحدثنا عن أحداث مجتمعنا، هناك أسباب أخرى تتعلق بفصم العلاقة بين الفن ودوره الاجتماعى، وعندما يصبح الفن «جميلًا لأنه لا غاية من ورائه»، يمسى من الطبيعى أن نقرأ ونسمع ونشاهد ونكابد كل تلك الاكتشافات الفنية الباهرة.