رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المأزق الداخلى لخطة السلام الأمريكية «2»



خطة السلام الأمريكية، أو ما اصطلح على اعتباره مشروعًا للتسوية ما بين الجانب الفلسطينى ودولة إسرائيل القائمة على الأرض- طُرحت ورُوج لها من قبل الرئيس ترامب وفريق العمل الذى خصه بالشكر لحظة الإعلان.
وقد تناولنا بالمقال السابق ملامح المأزق الذى تتعرض له تلك الخطة من داخل البيت الذى أعدها وطرحها ويعمل عليها بشكل واسع، وأشرنا إلى أن داخل هذا البيت المذكور بالعنوان يخص الولايات المتحدة وإسرائيل.. المقال السابق تناول ما تتعرض له الخطة من إشكاليات داخل إسرائيل، فهى لا تحظى بالقدر الواجب من التوافق، ولا يبدو الأمر بالنسبة للإسرائيليين كأنها تمثل الهدية العظيمة، وكلمة النهاية المنتظرة لصراعهم الطويل مع الحقوق الفلسطينية.
أما الجزء الثانى، وهو مقال اليوم، فيقترب هو الآخر من الملامح الداخلية لاستقبال الأمريكيين، لما جرى طرحه من قِبل رئيسهم الحالى والمرشح المؤكد أيضًا لخوض سباق الرئاسة لأربعة أعوام مقبلة.
جانب من الآراء الأمريكية ذهب سريعًا لوصم توقيت الإعلان عن خطة التسوية الأمريكية، بـ«المشبوه»، لأن خطة السلام المعروفة إعلاميًا بـ«صفقة القرن»، تأتى خدمة لمصالح شخصية وحزبية لكل من الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، ورئيس الوزراء الإسرائيلى المنتهية ولايته بنيامين نتنياهو.

فقد وجد من تبنى وجهة النظر تلك أنه فى غضون الإعلان عنها كان ترامب يواجه إجراءات محاكمة لعزله، بينما كان من المقرر حينها أن يبت الكنيست الإسرائيلى فى طلب نتنياهو الحصول على الحصانة من المحاكمة بتهم الفساد.. لذلك فوفق المحللين من وجهة النظر الأمريكية والإسرائيلية، يُعد الكشف عن الخطة وصفة للنجاح، والحصول على الدعم الداخلى لكلا الطرفين «ترامب ونتنياهو»، الداعم كل منهما الآخر.
وفعليًا ظلت مسألة خوض كلا الرئيسين معركة انتخابات الرئاسة متلازمة، بل وجاثمة على مشهد الإعلان عن الخطة، وأسهمت بصورة كبيرة فى «تقزيم» عملية استقبالها بالداخل الأمريكى والإسرائيلى، وامتد ذلك للفضاء الدولى غير القادر على إزاحة ذلك من مجمل مشهدها المعبأ فى الأساس بالالتباسات والقفز على الحقوق والشرعية الدولية وخلافه.
لكن هناك فى الداخل الأمريكى من ذهب بالطبع لأبعد وأعمق من مسألة توقيت طرح الخطة.. «ديفيد ماكوفسكى»، الباحث المخضرم ومدير مشروع عملية السلام فى الشرق الأوسط فى معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، طرح سؤالًا له علاقة بالحدود تمثل فى: «هل لا يزال الخط الأخضر أساس حسابات الأراضى؟»، لأنه يعلم ويذكِّر المتابعين أن اتفاقيات السلام الثلاث السابقة ارتكزت على الخط الأخضر «أى حدود ما قبل عام ١٩٦٧» كأساس للحسابات، حيث اقترحت تلك الخطط حصول الفلسطينيين على ما بين ٩٧٪ من الضفة الغربية فى خطة كلينتون إلى نحو ١٠٠٪، وكان يمكن تحقيق هذه الأرقام من خلال آلية «مقايضة الأراضى» التى بموجبها كانت إسرائيل ستضم بعض الكتل الاستيطانية، حيث يعيش معظم المستوطنين الإسرائيليين.. وفى المقابل كانت ستمنح الفلسطينيين مساحات معادلة من الأراضى من الجانب الإسرائيلى وفق الخط الأخضر.
وخلال «عملية أنابوليس»، وافق رئيس الوزراء الإسرائيلى «إيهود أولمرت» على فكرة تبادل الأراضى بنسبة ١:١ تقريبًا، بحيث تضم إسرائيل بموجبها ما يتراوح بين ٥.٨٪ و٦.١٪ من الضفة الغربية، ولكنها تقوم بمبادلة مقابلة لمساحة أقل بـ٠.٥٪ من الأراضى الإسرائيلية.. وخلال مبادرة «جون كيرى» الأخيرة، كانت «السلطة الفلسطينية» تعتمد على شروط أفضل، لكن المحادثات لم تصل إلى هذه النقطة.

المقلق من وجهة نظر «ماكوفسكى» وآخرين، أن خطة ترامب لا تستخدم الخط الأخضر كنقطة مرجعية على الإطلاق، وأن إدارة ترامب، وتحديدًا فريق العمل على الخطة، قد وصفوها بأنها «حدود مفاهيمية» يمكن التفاوض بشأن تفاصيلها، مما يعنى أن بإمكان «السلطة الفلسطينية» من وجهة نظرهم اقتراح بدائل.. فالداخل الأمريكى يرى أن مقاربة الرئيس الأمريكى غالبًا ما تذهب تجاه هذا النوع من الصفقات المصممة لتبدأ بالموقف الأكثر تصلبًا لتنتقل بعدها إلى موقف وسطى.

هناك أيضًا انتقاد كبير فيما يخص وضع «غور الأردن»، فالأمريكيون الذين يصفون الخطة بالجائرة وبأنها قفزت إلى المجهول يذهبون أيضًا للمقارنة مع خطط التسوية السابقة، حيث ركزت جهود خطتى «كلينتون، وأنابوليس» على كون القوات متعددة الجنسيات قادرة على لعب دور حماية الحدود ما بين إسرائيل والأردن.. فى حين اقترح «جون كيرى» قوات أمريكية لتتولى هى تلك المهمة، على اعتبار أن إسرائيل لن توافق أبدًا على وجود فلسطينى يعمل على حراسة تلك الحدود، بالنظر إلى ما واجهته على هذه الجبهة فى حروب عامى ١٩٤٨ و١٩٦٧.
أما نهج خطة ترامب، فقد قفز لأبعد من ذلك، حيث يمنح إسرائيل السيادة الكاملة على معظم وادى الأردن، وهذا سيؤدى إلى حرمان الفلسطينيين من أى حدود مع الأردن، ومما سيستتبعه أن إسرائيل ستطوق الدولة الجديدة بشكل حاسم وفعال، لتحدد من يدخل إليها ومن يغادرها.
ذات المنطق يطبق أيضًا على وضع القدس؛ حيث تتصور خطة ترامب أن تكون «القدس» مدينة غير مقسمة جغرافيًا، ففى الوقت الذى ركزت فيه  الخطط السابقة إلى حد كبير على فكرة مدينة موحدة جغرافيا، وذات سيادة مقسمة: إسرائيل تسيطر فيها على الأحياء اليهودية فى المنطقة المعروفة بالقدس الشرقية، فى حين تصبح الأحياء العربية جزءًا من الدولة الفلسطينية- تتباين تفاصيل خطة ترامب بشدة حول هذه المسألة الأخيرة، فالصياغة التى اعتمدتها الإدارة الأمريكية، بمنح إسرائيل سيادة على مناطق القدس الشرقية التى يقطنها حوالى «٢٩٤٫٠٠٠ فلسطينى»، كما أن بعض هؤلاء الأفراد يعيشون فى أحياء فلسطينية حصرية مثل «بيت حنينا» فى الشمال، و«جبل المكبر» فى الجنوب، ويبدو من اللافت للنظر أن «الحدود المفاهيمية» كما سمتها الخطة، لا تعالج هذه الحقيقة الديموغرافية فقط، إنما فى الواقع هى تنسفها نسفًا!
هذه «بعض» من التحفظات، والرؤى الأمريكية الداخلية التى ترى أنها تشكل حالة العوار فى طيات خطة ترامب للسلام، وهناك الكثير الذى فعليًا قد يدخل «الخطة» فى مرحلة جديدة يستلزم الوقوف عنده، نتناوله الأسبوع المقبل بمشيئة الله.