رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"سر الأشاعرة".. أغلقوا باب التجديد ووضعوا العقل فى خدمة النقل

الأشاعرة
الأشاعرة

مشكلة تجديد الخطاب الدينى يمكن تلخيصها فى سؤال: هل يجدد الأشاعرة «التيار الفكرى الرسمى للأزهر»؟، وإذا كان السؤال واضحًا فإن الإجابة عنه ليست بالوضوح ذاته، على الأقل حتى الآن، فمن الواضح أن الذين ننتظر منهم التجديد لا يعرفون ما الذى نعنيه بالتجديد، أو ربما لا يعرفون ما الذى تحتاجه مجتمعاتنا من أجل التجديد، كما أنهم قد لا يكونون مدركين السبب الذى يجعل المجتمعات الإسلامية بحاجة إلى هذا التجديد.
يقول البعض إن علينا أن ننتظر التجديد من هؤلاء، لكن آخرين يرون أن الكلام عن التجديد سيستمر «مجرد كلام»، وسلسلة تساؤلات لا تنتهى، ومعها اجتماعات ومؤتمرات وإعلانات لكنها فى النهاية ستسفر عن لا شىء. وكان آخر هذه المؤتمرات «مؤتمر الأزهر العالمى للتجديد فى الفكر الإسلامى»، الذى شهد مناوشات بين الدكتور محمد عثمان الخشت، رئيس جامعة القاهرة، والإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، الذى قال إن «الخشت» أتى على الأشاعرة بما ليس فيهم بخصوص المناهج العلمية المتّبعة فى دراسة علم الحديث والفتاوى المستندة إليه.
هل كان ما قاله الدكتور الخشت دقيقًا؟ وهل كان الإمام صادقًا فى نفيه اعتماد الأشاعرة على أحاديث الآحاد؟.. تعالوا معًا لنعرف.


يغلقون باب التجديد انتصارًا للتراث.. وصراعهم مع «التنويريين» مستمر منذ قرون
فى عام ٢٠١٦، أعلن الأزهر الشريف عن أنه على المذهب الأشعرى، وقال الإمام الأكبر، فى مؤتمر شهير بالعاصمة الشيشانية جروزنى، إن «الأشاعرة هم أهل السنة والجماعة»، واعتبر بذلك أن أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية، وأنهم المسلمون على المذهب الصحيح، نافيًا أى ارتباط بين الأشاعرة والسلفية، لكن هل هذا الادعاء حقيقى؟.
فى مؤتمر «جروزنى»، منذ ٤ أعوام، تبرأ الإمام الأكبر من السلفية وتشددها، وفصل بينها وبين الأشاعرة، لكن كان لهذا المؤتمر قصة، وكانت لهذا الكلام فى تلك الظروف «ظروف».
وقتها كان الأزهر الشريف بحاجة شديدة إلى التبرؤ من تشدد السلفيين، واستعادة صورة الإسلام النقية أمام العالم، وسبب الحاجة كان زيادة حوادث القتل باسم الدين، والإرهاب باسم الإسلام، وكان السبب هو تصاعد موجات حرق الناس، واغتصاب النساء، وهدم المدن، على يد «دولة داعش» باسم الله. وبعدما أكثرت «داعش» من اغتصاب النساء وذبح الأطفال، انتصارًا لسنة رسول الله، هاج العالم وأراد أن يحاسب الإسلام، وكان مع العالم حق، فى الوقت الذى لم يكن أمام الأزهر كثير من الحلول، ولم يكن أمام الشيخ الطيب وقتها إلا إعلان الجماعات المتطرفة سلفية، ونفى ذلك عن الأزهر وعن الإسلام.
بدا الأمر وقتها كما لو أن الإمام الأكبر أراد أن يقول للعالم إن الدواعش، الذين يدّعون الإسلام، قد اتخذوا من الدين ما لم يقصده، وفهموا من القرآن ما لم يرِده الله للإسلام، وأراد، أيضًا، أن يقول إنه إذا كان الجهاديون متطرفين، فالأزهر ليس كذلك، لأنه «وسطى»، مثله مثل الإسلام.
وقتها، لم يكن أمام شيخ الأزهر إلا محاولة نفض رداء السلفية عن الإسلام، مع السعى لنفى التشدد عن الأزهر، كأنما أراد أن يقول: إن الإسلام والأزهر شىء، والسلفيين والمتطرفين شىء آخر.. الإسلام وسطى وليس سلفيًّا، ولأنه وسطى فهو ليس متطرفًا، ويختلف عما يريده السلفيون.
لكن.. لو أن مشايخنا فى الأزهر بعيدون فعلًا عن تشدد السلفيين، فمن أين يأتى الخلاف الدائم والظاهر بين أجيال من الأزهريين، أساتذة وطلابًا ومشايخ، ومجتمعات دخلت جدال التجديد وأوكلت هذه المهمة للجامع الأزهر بوصفه الأقدم والأقدر والقيّم على الدين الوسطى؟!
والسؤال الأهم هو: لماذا وافق الأزهر على «التجديد» وقال إنه أهل له وموافق عليه بل مؤمن بضرورة التجديد ثم عاد مجددًا إلى صرف النظر عن مطالبات المجتمعات بالتجديد؟، ولماذا اصطدم مشايخ الأزهر بنا ونحن المجتمعات التى حمَّلت مشايخه مسئولية التجديد؟.
لو كان المشايخ بعيدين عن التشدد فما الذى وضع كثيرًا منهم على خطوط تضاد مستمر مع المجددين؟، ولماذا يثور المشايخ الآن على الأفكار التى طرحها المجددون حتى كاد بعضهم يعتبرها خروجًا عن الدين وامتهانًا له؟، ولماذا عادوا يتكلمون عن التراث بنبرة احترام ونظرة تقترب من التقديس، مع أن التراث ليس كله مقدسًا وليس كله ينفع للاسترشاد به الآن؟، فضلًا عن أن بعضه ليس أيضًا من الدين أو إطاره.
بوضوح نسأل: هل مشايخنا الآن ضد الاجتهاد وضد إعادة فتح بابه فى أمور الدين، كما سبق وفعل الأوائل من المسلمين؟، وما الذى تطالب به دعوات التجديد ويمثل خروجًا عن الدين؟، أم أن الخطأ هو فى إعادة الاجتهاد نفسه وإعادة النظر إلى قضايانا الإسلامية وأحكامنا الشرعية بما يتناسب مع الظروف وتغير المجتمعات؟.
وفقًا لما نعلم، لم يحدث أن طالب المجددون بأكثر من إعادة فحص السنة وإعادة التثبت منها، كما لم يطلبوا أكثر من إعادة النظر فيما يعتبره المشايخ مسلمات دينية، ولم يطلبوا، أيضًا، سوى إعادة النقاش فيما يعتبره المشايخ «معلومًا من الدين بالضرورة»، لأنه لا أحد يعرف، إلى الآن، ما المقصود بالمعلوم من الدين بالضرورة.. ولا ما الذى جعله معلومًا.. ولا من الذى استوجب ضرورته؟!.
وبالمثل: لا أحد يعرف ما أصل الخلاف وأرضيته ولا سبب امتداد المعارك بين المؤسسات الدينية وطوائف المجددين، بداية من زمن الإمام محمد عبده، وانتهاء بعصر الجزائرى محمد أركون، أو السورى محمد شحرور، والبحرينى محمد جابر الأنصارى؟.
وربما تكون الإجابة عن كل هذه التساؤلات تكمن فى القول بأن أبسط مطالب التجديد كانت إعادة فتح باب اجتهاد قال المشايخ إنه أُغلق، لكنهم فى الوقت نفسه لم يقولوا من الذى أغلقه، ولا ما معنى إغلاقه؟.
يرى كثير من الباحثين أن أكبر أسباب الصدام بين المشايخ ومجتمعاتهم هو الميل ناحية الأشعرية، لكن الأشعرية ليست مذهبًا، بل هى طريقة تفكير، وليس عيبًا لو وصفها أحد بأنها «النظرة الضيقة»، أو وصفها آخرون بأنها «نظرة لا بد لها من إعادة نظر».
لكن، وفى المقابل، يرى الأشاعرة أنهم «الوسطيون»، أو ربما هم «الوسطيون الوحيدون»، وهم فى الوقت نفسه ينفون عن أنفسهم «السلفية» وأفكارها وغلوها فى الدين وتطرفها أحيانًا.
ويرى هؤلاء المشايخ أن الغلو فى الدين مقصور على التيارات السلفية، وأن الفكر السلفى هو المسئول عن ظهور جماعات التكفير والهجرة، وأنه أصل فتاوى جماعات الجهاد وأس الفساد وأصل التطرف. لكن ما يحدث، فى ملف الاجتهاد، يكشف أمام المسلمين أن مشايخنا- كما السلفيين- يعظمون من التراث ولا يفتحون بابه ولا يمنحون الفرص لأى محاولات لتنقيته، ولا أى نقاشات حوله.
يضعون العقل فى خدمة النقل.. ولا يختلفون عن التيار السلفى

التراث أشكال وألوان، أوله النقل بلا فحص.. النقل عن الأولين وعن المسلمين فى عصور الإسلام الأولى.. نقل الأحكام والاجتهادات ووجهات النظر فى مشكلات المسلمين، لكن أول سؤال على طريق التجديد يظل دائمًا هو: هل يصح أن يظل النقل قبل العقل.. أم أن التجديد والحداثة وما يُستجد من أمور الدنيا، والدين أيضًا، يُجيز بل يستلزم أن يسعى المسلمون جميعًا لجعل العقل قبل النقل؟
يصر مشايخنا فى الأزهر من الأشاعرة على اعتبار العقل دائمًا فى خدمة النقل، لا العكس، فالنقل، لدى الأشاعرة، يأتى من كل ما ورد أو نسب إلى عصر المسلمين الأوائل والتابعين وتابعى التابعين، و«كل ما ورد» هنا مقصود بها: كل ما وصل عبر الزمن من سنن نبوية وأفعال واجتهادات الصحابة فى تفسيرات القرآن الكريم وأحكامه وتطبيقاته، ويرى الأشاعرة، حتى الآن، أن النقل يبطل العقل، أو على الأقل أن النقل أولى من العقل.
لكن.. من قال إن المجددين يطالبون بإبطال النقل؟، لم يقل أحد منهم هذا ولا يجرؤ، وكل ما هنالك أنهم يقولون إن هناك مساحات بين النقل والعقل، وللعقل مجال يدخل فيه ويجوز له أن يعمل على إعادة النظر فى أحكام الأوائل حسب المستجدات، ومن قال إنهم يريدون اللعب بأصول الدين، وإن تجديدهم يأتى للافتئات على ثوابت نصية؟، فهل يجرؤ مسلم يؤمن بالله على الاجتراء أو التفكير فى الاجتراء على النص؟.
المجددون يرون أن فى الإسلام مرونة، لأنه أنزل للعالمين، ولم ينزل لأهل عصر ما أو زمن ما، لذا فمرونته تناسب تغير المجتمعات وتلاحق الأزمان، رغم ثبات النص الذى لا يتغير، لكن هذا النص الثابت نفسه يحمل من المرونة فى أحكامه ما يجعله قادرًا على استيعاب الأزمنة والتغيرات وتقديم حلول تستوعب مشاكل المجتمعات الإسلامية فى العصور الحالية، التى اختلفت، بالتأكيد، عن مشكلات وحلول عصور المسلمين الأوائل. ورغم ذلك، ومنذ عصر الخليفة المتوكل «عصر الاضمحلال العباسى»، سيطر النقل على الدين، ورفض الفكر الأشعرى أى مطالبات بإعادة تقييم «المنقول»، الذى يبدأ من اجتهادات الأوائل فى الأحكام الشرعية لحل المشكلات وينتهى بإعادة فحص ما يتداول من سنن وأحاديث منسوبة للنبى «صلى الله عليه وسلم».
ومنذ نشأة علم الفقه فى القرن الثانى الهجرى، وحتى الآن، لم يحدث أن تعدى الفكر الأشعرى الاختيارات والترجيحات بين آراء الصحابة أو التابعين، سواءً فى مسائل العبادات أو المعاملات، فلم يحدث أن أثمر الفكر الأشعرى عن تخريجات جديدة، لأنه لم تكن لدى مشايخه القدرة على ذلك.
وإذا كان الأمر كذلك، فعلى أى أساس يستند مشايخنا الأزهريون فى التفرقة بين الفكر الأشعرى من جهة، والمذهب السلفى المتشدد من جهة أخرى؟، فالأشاعرة عمليًا، سلفيون، والأزهر أشعرى مثل الوهابية السلفية، فهو الآخر سلفى، فعلى أى أساس يمكن أن ينفى الأزهر السلفية عن نفسه ومشايخه؟.
الفكر الأشعرى لا يختلف عن الفكر السلفى فى شىء، فالأخير يعتبر المسلمين الأوائل هم الإسلام، ويرى أن اجتهاداتهم فى تفسير القرآن الكريم هى «الباترون» الرسمى والسماوى للاجتهاد فى الإسلام، بصرف النظر عن الظروف والمستجدات. ويرى باحثون أن الأشعرية- وهذا ليس حرامًا ولا خروجًا عن الدين- تمثل إسلامًا من نوع خاص، أرست به القواعد لـ«إسلام ضيق»، ورسخت لعقيدة «سمعية نقلية»، تحتفى بـ«ظاهر النص» فى تفسير الدين، وتحتفى بأقوال الصحابة وتعتمد على النقل والتراث وكل ما وصلنا منه، وفق تسليم كامل وتقديس هائل. السلفية ضيقت الدين، والأشعرية فعلت الأمر نفسه، فما الفارق بين أفكار سلفية متشددة التناول والطرح، والأشعرية التى ضيقت من المفهوم والإدراك؟
هل نكون على خطأ إذا قلنا إن هاتين الطريقتين فى التعاطى مع الإسلام كانتا سببًا فى الفهم المغلوط للدين عند الذين قتلوا وذبحوا واستباحوا الأموال واغتصبوا النساء، لأن كلتيهما مثلت فهمًا خاطئًا للدين؟.
هل نكون على خطأ لو قلنا إن هذه الأفكار كانت المسئولة عن تحويل الدين الرحب المتسامح من عقيدة واسعة إلى نصوص منقولة بالتواتر والعنعنات؟، وهل نخطئ لو قلنا: إننا مسلمون كما هم مسلمون، وإننا رجال كما هم رجال؟.
هل نخطئ إذا قلنا إن التفكير الأشعرى لم يكن سليمًا كل الوقت، ولا طول الزمن، وإنه كان سببًا فى أن يكون بعضهم ضد التطور المطلوب للدين، وضد العقيدة العابرة للقارات والأزمان التى أرادها الله للإسلام؟.
ألم يرد الله للإسلام أن يكون دينًا للعالمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؟، لكن هل أوصلتنا الأشعرية إلى هذه النتيجة؟، الإجابة: طبعًا لا.

ليسوا وسطيين.. وفكرهم ينفى قدرة الإنسان على التفكير والاختيار
فى كثير من المسائل، وقف التفكير الأشعرى إلى جانب التسليم فى مقابل العقل، واحتفل الأشاعرة باللفظ أكثر من الاحتفاء بالمضمون، ووصل الأمر إلى أن أدت أشعرية الإمام الغزالى به إلى ما يسمى «نفى السببية»، وهو أمر يعنى كثيرًا، ويكفى أنها إشارة إلى طريقة التفكير ودلالة على طريقة التعاطى مع قوانين الدنيا ونواميس الله فى خلقه وقوانينه فى كونه.
قبل الإمام الغزالى نفى الأشاعرة إرادة الإنسان الكاملة وقدرته على الخير والشر، أى أنهم نفوا قدرته على الاختيار الذى هو أساس التكليف فى كتاب الله «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر».
وصلت الأشعرية بالإمام الغزالى إلى أن أوقف حدوث الأحداث على أسبابها، وأرجعها إلى إرادة الله، وقال إن الإنسان يفعل لأن الله يريد، وإن الإنسان غير قادر على الفعل وحده وغير مختار، مع أن كتاب الله الكريم يقول: «وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا».
وفى التاريخ محطات كثيرة وكبيرة أوقف فيها الفكر الأشعرى العقل وخنقه ووضعه فى أركان ضيقة، وفى التاريخ محطات أكثر حرمت الأشعرية الاعتماد فيها على العقل، وأخرجت مِن الملة مَن تكلم عن آليات التفكير الإنسانى وقدراته.
كثيرون من الأشاعرة على مر التاريخ الإسلامى اعتبروا العقل ضد النقل، واعتبروا التفكير فى الدين حرام، وأقروا بأن الإيمان تسليم، ولا يسأل المؤمن ولا يجادل.. فهل هذا كلام؟!
ونتيجة لذلك، سيطرت الأشعرية فى عصور الاضمحلال العباسى، أما فى عصور الازدهار الإسلامى فكان الفكر الاعتزالى النقدى هو الغالب، وظل الإسلام مختلفًا بين الاثنين، المعتزلة والأشاعرة، كما ظل الصراع ملتهبًا ومستمرًا بين الاثنين أيضًا.
فى العصر العباسى الثانى «عصر الاضمحلال والضعف» أخذت الأشعرية على عاتقها رد المساحات الواسعة للحرية الإنسانية التى ناقشتها المعتزلة واكتسبتها إلى مناطق محدودة، وذلك بعدما حاولت المعتزلة البرهنة على قدرة الإنسان ومسئوليته عن أفعاله، وبعدما حاول العقلانيون المسلمون التأكيد على أن سلوكيات البشر نابعة من إرادتهم هم، لا من تقدير الخالق ومشيئته، الذى يحاسب يوم القيامة على مسالك البشر، وإلا ما كانت هناك دواعٍ للثواب والعقاب.
وطوال تاريخهم، ادعى الأشاعرة أنهم أصحاب التأصيلات العقلية الدينية، لكن بعد فترة يظهر أن تأصيلاتهم ليست عقلية، بل تسليمية، بما يخالف جوهر الدين، ورغم أنهم تكلموا عن «العقل» وأهميته، إلا أن مدارسهم كلها أبطلت العقل بالنقل فى نهاية كل نظرية، وفى آخر كل وجهة نظر.
الأشعرية أصرت على الأخذ بالمنقول «الحديث والسنة النبوية المنسوبة»، وفضلوها على الرأى والاجتهاد، واعتبروا الأخذ «بالنقل بلا فحص» مبدًأ دينيًّا، ثم كفروا من خالفه، أو من حاول الرجوع عنه.
لذا فالأشاعرة هم أول من أوقفوا الاجتهاد فى محاولة استخراج أحكام شرعية جديدة، ورفضوا كل محاولة فى هذا الموضوع، لم يرفضوا فقط، بل كانوا أعداء أى محاولة حديثة لاستصدار أحكام مختلفة عن اجتهادات المسلمين الأوائل فى عصور الصحابة والتابعين.
لا نخرج عن الدين لو قلنا إن طريقة التفكير الأشعرية كانت محاولة للعودة بالمستقبل إلى الخلف.. عودة بالدين إلى الوراء، لكن لو شاء الله لأنزل الإسلام أشعريًا، ولو شاء رسوله لنص على أن الأشاعرة هم ورثة الأرض وورثة الأنبياء وأصحاب الرسالة وهم وحدهم المسلمون.
ووفقًا لذلك تبقى الفوارق واضحة- حتى الآن- بين أغراض العقلانيين المسلمين الفكرية والأشاعرة على طول التاريخ الاسلامى.
فى رأى العقلانيين «المجددين أو المطالبين بالتجديد» أن الله منح العقل كل التراخيص للفحص والنقد وإعادة تدوير المسلمات الدينية اعتمادًا على النص الأصلى «القرآن الكريم»، وفهمه مباشرة، لا اعتمادًا على ما نُقِل من تفسيرات التابعين وتابعى التابعين.
ومنذ بدايات القرن الثانى الهجرى ظل الصراع عنيفًا بين تيارين رئيسيين، تيار الحرية الإسلامية، وتيار آخر أكثر تشددًا وانغلاقًا أسَس لمدرسة سلفية متشددة فيما بعد، وكانت سببًا فى خروج جماعات تكفر المجتمعات وتهجرها ثم تقاتلها حتى «تعود إلى الله».
لكن الأشاعرة أصروا على اعتماد أقوال الصحابة ومسانيد التابعين «أصلًا دينيًّا» فى فهم الدين وأحكامه، وأضافوا هذا المفهوم، مع الوقت، للفقه الإسلامى، الذى تطور على يد المتأخرين منهم ووصل إلى اعتبار مسالك المسلمين الأوائل هى الإسلام، وأن اجتهاداتهم هى صحيح الدين.
ووفق هذه الرؤية، ما الذى لا يجعل الأشاعرة سلفيين؟، ما الذى يجعلنا نرفض النظرة إليهم باعتبارهم كذلك؟، هل يكفى أنهم يرون مذهبهم وسطيًا متعقلًا، رغم أن هذا الأمر فيه كلام، ورغم أن هذه النظرة لأنفسهم تخالف بل تناقض ما أحدثوه فى الفكر الإسلامى؟.
ألا يمكن بعد ذلك أن نقول إن الفكر الأشعرى كان، بلا جدال ولا خلاف ولا افتراء، أحد الأسباب فى ظهور الجماعات السلفية التى مارست القتل باسم الله؟، وإذا كان الأمر كذلك فأى تجديد ننتظره من هؤلاء؟.