رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التجديد الذى نريده «10»

د. عثمان الخشت: هل يرفض الإسلام التجديد؟

عثمان الخشت
عثمان الخشت

القسم الأول من الفصل الخامس
١- إشكاليات الفجوة بين الإسلام والمسلمين:
مع مرور أكثر من أربعة عشر قرنًا على ظهور الإسلام، لا تزال الفجوة واسعة بين الإسلام والمسلمين، فالإسلام «قرآنًا وسنة صحيحة» يقدم نموذجًا عالميًا للدين الذى يلائم الطبيعة الإنسانية، ويعترف بالتنوع الكونى والإنسانى، ويعتبر التعددية سنة إلهية، ويميز بوضوح بين البشرى والإلهى.
إن الإسلام دين يؤمن بالتطور والتغير، ويعطى مساحات واسعة للاجتهاد البشرى ومراعاة المصالح المرسلة، والاستحسان.. إلخ، بينما المسلمون يعيشون فى جمود فقهى منذ أكثر من سبعة قرون، وفى خطاب وعظى إنشائى فارغ ومنفصل عن حياتهم اليومية.
ولا يزال المسلمون يخلطون بين موروثاتهم الاجتماعية التى ورثوها من بيئتهم والتصور الإسلامى النقى المستمد من القرآن العظيم والسنة المطهرة الصحيحة، وهم يخلطون بين العبادة الحق والعبادة المزيفة، فلا يزال الكثيرون منا يقيمون علاقتهم مع الله من خلال الطقوس والمظهر فقط، وينسون المعاملات والصدق والالتزام والدقة وإتقان العمل.
وهذا الفريق يظن أن النجاة فى الدنيا والآخرة تتوقف على بعض المظاهر الشكلية والأقوال الجوفاء، وليس من خلال الالتزام والمسئولية، فسبيل الخلاص عندهم فى الشعارات والالتزام الصورى والمظهرى، وليس فى ممارسة العمل البنّاء فى تنمية بلادهم والعالم، وهم يخلطون بين العبادة الحق فى الدين، التى تقيم علاقة فعالة بين الإنسان والله، فتمده بدافع شخصى متجدد، لممارسة دوره فى إعادة بناء العالم، والعبادة المزيفة التى يمارسها المراءون، أو التى يمارسها الذين يخدعون أنفسهم ويظنون أنهم يسترضون الله تعالى بأداء بعض الطقوس، ثم يسعون فى الأرض فسادًا؛ فيغشون ويكتمون الشهادة وتشيع بينهم عادة النفاق والرياء وسيادة مبادئ الإهمال والغدر وعدم الالتزام بالوعود!
كما يخلط كثير من المسلمين بين معتقدهم الدينى ومواقفهم السياسية ذات الطابع الإنسانى المتغير، إن الإسلام يشتمل على أصول تحقيق العدل والإنصاف، هذا شىء لا شك فيه، لكن الخطر يكمن فى أن يعتبر البعض أن مواقفهم السياسية المتغيرة والمرتبطة بالمصالح الشخصية والأيديولوجية والطبقية التى ينتمون إليها هى تعبير عن الإسلام الخالد نفسه!
والخطورة الحقيقية فى عدم التمييز بين الثابت والمتغير فى الأحكام الشرعية، وبين قطعى الدلالة من النصوص وظنى الدلالة منها، وبين المحكم والمتشابه فى القرآن، وأيضًا عدم التمييز بين الأحاديث المتواترة والأحاديث الآحاد، والأحاديث صحيحة النسبة إلى الرسول الكريم والأحاديث الضعيفة والموضوعة كذبًا عليه، صلى الله عليه وسلم.
وبطبيعة الحال ينتج عن ذلك الخلط تضخم تشريعى مكبل للإبداع والحياة الإنسانية، كما تنتج منظومة من الخرافات والمعتقدات والأحكام غير المنضبطة، ومجموعة من القيم المعكوسة التى تولد عقولًا مغلقة وهشة، يمكن بسهولة قيادتها نحو ممارسة الإرهاب، ليس ضد الآخر فحسب، بل ضد أبناء الدين الواحد والوطن الواحد.
ولعل هذا هو السبب فى النقد غير العادل الذى يوجهه المؤكدون على الطابع التاريخى للدين، والذين يركزون- من وجهة نظرى- على رؤية الجزئى والسلبى والمؤقت فيما يدخل الفكر الدينى نتيجة الظروف التاريخية ونتيجة الجهل والسطحية، دون أى تمييز بين الدين من جانب والفكر الدينى من جانب آخر، ودون أى تمييز بين الإسلام فى نقائه الأول والمسلمين فى ممارساتهم التاريخية التى تصيب وتخطئ.
ويتجاهل الماديون حقيقة أن التاريخ الدينى لا يقدم على الدوام ما هو جزئى ومؤقت ومرحلى، إنما يقدم كذلك ما هو ذو طابع كلى وإيجابى ودائم، ولكن هذا لا يعنى أنهم لم يكونوا مُحقين فى نقدهم أتباع الدين عندما حولوا «فهمهم» للدين الأصلى إلى حقائق نهائية ومؤسسة وكهنوت يركز على الطقوس والمظاهر أكثر ممّا يركز على نقاء الضمير والفضيلة واتساق الظاهر والباطن، ويركز على الشكلى والسلطوى والقهرى أكثر ممّا يركز على الجوهرى والعقلى والإنسانى.
ويبدو- من وجهة نظرى- أن هذا قدر كل دين، عندما ينسى أتباعه فى عصور الانحلال والتراجع الطبيعة الأصلية والمقصد الحقيقى له، ولهذا نجد أن محمدًا، صلى الله عليه وسلم، كان يدرك خطر تحول الدين عن أصله إلى شكليات، ويخشى من «البدع» التى تفقد الدين جوهره وتتحول فيه الوسائل إلى غايات، والنوافل إلى فروض، والشكليات إلى جوهريات، والفروع إلى أصول، والعادات الاجتماعية إلى واجبات دينية!
وهنا لا بد أن نفهم أن تحذير محمد، عليه الصلاة والسلام، كان من «البدع» فى مجال العبادات، وليس من «الإبداع الإنسانى» فى مجال الحياة، لذا فإنه فى الوقت الذى حذر فيه من الأولى، دعا إلى تجديد فهم المسلمين للدين فى جانبه المتعلق بالحياة، بغية تخليص فهم الدين من العنصر التاريخى ذى الطابع المؤقت الجزئى والعرضى، والتدبر والتنقيب لاكتشاف ما هو دائم وكلى وجوهرى، ومع ذلك يتنوع فى معناه ليلائم التطور الحادث فى ظروف الناس والمجتمع والتاريخ؛ ولذلك فإن المفسرين الأوائل عددوا المعانى للآية الواحدة واللفظ الواحد، ليس فقط فى نطاق التفسير العقلى أو التفسير بالدراية، بل أيضًا فى نطاق التفسير بالمأثور عند السلف القائم على تعددية مدهشة لا يفهمها أهل الجمود فى عصرنا.
٢- إشكاليات الفهم و«المشروع الحداثى» الذى لم يحققه المسلمون بعد:
بقدر وجود فجوة بين «فهم الغرب» و«الإسلام الأصلى»، توجد فجوة من نوع آخر بين «فهم المسلمين» و«الإسلام الخالص».
والحل ليس تجديد الإسلام، بل تجديد المسلمين، وفى ظنى أن هذا سوف يقضى على الفجوتين فى وقت واحد!
كيف؟
إن تأسيس عصر دينى جديد يجرنا إلى مجموعة من الإشكاليات الحقيقية التى تتعلق بواقع المسلمين، اليوم، وعلاقتهم بالإسلام الحقيقى، وهى علاقة تقوم على فهم هش ومزيف، ولذلك ازدادت الفجوة بين المسلمين والإسلام، وهذه الفجوة، لا تُسأل عنها فقط الظروف التاريخية والاجتماعية، إنما يُسأل عنها أيضًا «الخلل فى طرق التفكير»، وهو خلل جاء نتيجة التعليم القائم على الحفظ والتلقين لا الفهم والتدبر، والمصيبة أن من يحاول الفهم لا يُعمل عقله، إنما يستعير فهم الأقدمين أو يستورد فهم الغرب!
وتتمثل إشكاليات الفجوة فى الإشكاليات الآتية:
■ لماذا يحصر المسلمون أنفسهم فى جانب ضيق: نصف الجسد الأسفل، الجنس، الزوجات، الطقوس.. بينما رؤية الإسلام أوسع من ذلك بكثير: الكون، الإنسانية، الحضارة، التاريخ، العدالة الاجتماعية، الإنصاف؟
■ لماذا يفهم البعض تعاليم الله على أنها تعاليم شكلية حرفية تتعلق بالظواهر أكثر ممّا تتعلق بالبواطن؛ ومن ثم حوّلوها من تعاليم للروح والجسد معًا إلى تعاليم للجسد فقط، وحوّلوها من تعاليم للسلوك إلى تعاليم للمظهر والشكليات بوجه عام؟!
■ والمفارقة المتجددة: لماذا يفشل المسلمون بينما هم يؤمنون بدين عظيم عالمى يحمل بداخله كل عناصر التطور؟
■ لماذا انهزم المسلمون فى الماضى أمام التتار بينما انتصر عليهم الإسلام؟! ولماذا ينهزم المسلمون منذ قرون أمام الغرب، ولا يزال الإسلام صاعدًا؟!
■ ثم لماذا فشل المسلمون فى استعادة ماضيهم المجيد، الذى تميز بالقوة والإنجازات الحضارية، والذى أعقبته فترة غلب عليها التدهور الخطير والسقوط فى بئر التخلف بل التهميش؟
■ ما الأخطاء التى أدت بهم إلى هذا المصير؟ ولماذا؟ وما الذى يقتضيه ذلك من تحركات فى المستقبل؟
■ وما أسباب الفشل فى المصالحة بين الإخوة الأعداء: الإسلاموية الأصولية فى مقابل الإسلاموية الليبرالية؟
■ ولماذا فشلت التيارات الأصولية فى اتخاذ موقف عقلانى واقعى فى مواجهة تيار العولمة المتسارع الذى يحمل اللهجة الأمريكية؟
■ ولماذا فشلت فى تحقيق حالة جديدة من الانسجام بين «الإسلام» و«المعاصرة» بشكل يمكّن المجتمع الإسلامى من اللحاق بالركب ودخول الألفية الجديدة بخطى واثقة تعتمد على الثقافة والتمدن؟
هذه إشكاليات تحتاج إلى إجابة، وهى أيضًا شجون تثيرها حالة «التناقضات» التى يعيشها العالم الإسلامى، والتى عجز التيار السياسى الإسلامى عن حلها، ومن ثم عجز عن تقديم نموذج عصرى حداثى يقرب الإسلام من العالم، ويقرب العالم من الإسلام.
لكن إلى متى سوف تستمر هذه الإشكاليات؟
إنها فعلًا إشكاليات حقيقية، وتحتاج إلى حل لا فى الكتب والمقالات، بل فى الواقع المرير الذى ينظر فيه العالم إلى الإسلام كأيديولوجية للإرهاب! والمسئول عن ذلك ليس قصور النظرة الغربية فقط، التى تخلط بين جماعات الإرهاب والإسلام، بل المسئول عن ذلك أيضًا المسلمون بقصورهم وضعفهم وعصبيتهم وتخلفهم عن تقديم مشروع علمى وحضارى متمدن يواكب العصر.
إن آلاف الخطب العنترية وآلاف العمليات الإرهابية لن تحل أى إشكال من الإشكاليات السابقة، بل سوف تزيدها تعقيدًا، وهذا ما برهنت عليه المائتا عام الأخيرة، ومع ذلك لا تزال الخطب الجوفاء مستمرة، ولا تزال العمليات الإرهابية جارية!
إن المشروع العلمى الحداثى هو الإجابة الأساسية التى يمكن تقديمها لتجاوز العيوب التقليدية التى يقع فيها الخطاب الغربى، ومن تلك العيوب ذلك الطابع الذى يسيطر على الخطاب الغربى فى اتهام الإسلام جزافيًا ودون برهان حاسم، إما بضعف البعد الروحى، أو بالتخلف الدينى المناهض لحركة العلم، أو بالإرهاب!
وقد جاء الحكم الأول نتيجة «المقارنة المعكوسة» بالمسيحية؛ حيث لا ينظر للإسلام وفق جدليته الخاصة، بل كانعكاس مقلوب لتاريخ المسيحية، فإذا كانت المسيحية رهبانية روحية، فإن الإسلام حسى مادى، وهكذا جاء الحكم على الإسلام بنقص الروحانية نتيجة عملية قلب عكسية.
فى حين جاء الحكم على الإسلام بالتخلف الدينى المناهض لحركة الارتقاء العلمى نتيجة «قياس المثل»، فإذا كانت المسيحية قد أعاقت حركة العلم فى أوروبا، فإن الإسلام كذلك قد أعاق حركة العلم فى الشرق! وهذا بالطبع موقف الاستشراق العلمانى المناهض للكهنوت، لكن يوجد موقف آخر اتخذه الاستشراق التبشيرى، الذى قرن بين تقدم أوروبا والدين المسيحى من ناحية، وتأخر الشرق والدين الإسلامى من ناحية أخرى!
بينما جاء الحكم على الإسلام بالإرهاب، نتيجة «الخلط» بين الإسلام كدين خالص وعقول قطاع من المسلمين! وتستمر المغالطة وتتسع؛ لتزعم أنه إذا كانت المسيحية مسالمة فالإسلام محارب!
ولا يريد أحد منهم أن يفهم أن الحرب فى الإسلام إنما هى حرب دفاعية عادلة، دفاعًا عن العرض والدم والأرض والحرية، وتحقيقًا للعدالة الاجتماعية والقانونية، بينما المسلمون تظهر فى طوائف منهم- منذ أمد بعيد- مفاهيم مغلوطة عن الجهاد بوصفه إكراهًا على الإيمان، وبوصفه فرضًا للرأى الواحد، وتمتد المفاهيم المغلوطة لتواجه الرأى المخالف بالحديد والنار! ولا تزال تسيطر على قطاعات كبيرة منهم الرؤية الأحادية للعالم، بينما الإسلام نفسه يعترف بالتنوع البشرى، ويدعو للتعايش الإنسانى، ويدعو إلى قيم وأخلاق التقدم، وهذا هو «قلب الحداثة» التى لم يدخلها المسلمون المعاصرون حتى الآن!
٣- تغيير رؤية العالم Worldview:
إن تجديد المسلمين يقتضى أول ما يقتضى تغيير رؤية العالم Worldview فى مخايلهم؛ لأن هذه الرؤية هى الأساس النظرى للفهم والتفكير، وهى التى تضع المحددات التى فى ضوئها يتشكل الفعل وطرق التعامل والتفاعل مع العالم المحيط وعناصره.
ورؤية العالم فى تصورى- ولا يعنينى هنا إن كنت متفقًا أو مختلفًا مع إيمانويل كانط أو فيلهلم دلتاى أو غيرهما- أقول رؤية العالم هى الإطار العام الذى نفهم به كل ما يحيط بنا.. الكون، الحياة، الناس، مستويات الوجود، الثقافات العالمية، بل هى الإطار الذى نفهم به أنفسنا أيضًا، لأن رؤية العالم هى المجموعة الأساسية من التصورات الافتراضية عن العالم، وتتضمن فى داخلها كتلة المعتقدات الكلية التى يحيا بها الإنسان، وفى ضوئها يضع الوعى الجمعى للناس علاقاتهم مع العالم، ونجد لها انعكاسات واضحة على الحياة الأخلاقية والاجتماعية والسياسية.
وعلى هذا فإن وظيفة الرؤية هى وظيفة معرفية، وهى نقطة البدء فى تغيير المسلمين؛ فالمسلمون اليوم- أو أغلبهم- ببساطة يملكون رؤية عقيمة عن العالم، وهى رؤية تتقاطع مع الرؤية السحرية اللاهوتية للعالم «التى حاربها الإسلام الأول، لكن المسلمين فى عصور التراجع ارتدوا إليها»، وهذه الرؤية السحرية لا تخرج عن مجمل رؤية العصور الوسطى الأوروبية، والغرب والشمال والشرق الأقصى يتقدمون علينا؛ لأنهم ثاروا على هذه الرؤية السحرية اللاهوتية، وكافحوا من أجل تكوين رؤية علمية للعالم، وهذه الرؤية هى الأساس النظرى لكل مكتسباتهم العلمية والحضارية وتفوقهم علينا فى التكنولوجيا، والعلوم الاجتماعية، والطبيعية، والفنون، والعلوم التطبيقية.
إن الرؤية السحرية تقوم على رؤية العالم محكومًا بالسحر والسحرة والجن والعفاريت والأشباح والأعمال السفلية تارة، والتدخلات الغيبية الخارقة تارة أخرى، أما قوانين الطبيعة فهى شىء طارئ وثانوى، والعلوم الرياضية والطبيعية من النوافل فى التعامل مع الكون، وأيضًا العلوم الإنسانية والاجتماعية هى آخر شىء يمكن اللجوء إليه لحل مشاكل المجتمع أو الفرد، بل هى غير حاضرة فى أى منهج يدرس العلوم الدينية التى تعتمد كلية على النقل والحفظ والترديد!
والعالم باختصار محكوم بقوى غيبية تربط وتنظم الأشياء بصورة منافية للقوانين العلمية التى تحكم الطبيعة فى الرؤية العلمية، ومن هنا تكون الردة- دون وعى- إلى تصورات الأديان السحرية التى انتبذها الإسلام.
ولنقف قليلًا عند الفروق الحقيقية بين الإسلام الأول والرؤية السحرية، التى تعد إحدى سمات الخطاب الدينى فى عصور التراجع، وهذه الفروق- من وجهة نظرنا- تكمن فى الجوانب الآتية:
١- يعتمد السحر على التأثير فى الأشياء عن طريق كائنات شيطانية أو أرواح أو تعاويذ أو كلمات أو قوى غيبية كامنة فى بعض الأشياء المادية، أما الإسلام الأول فينص على أن كل شىء فى الكون خاضع لقانون السببية Principle of Causality، وهو المبدأ الذى يقرر أن لكل ظاهرة سببًا، وأن لا شىء يحدث من لا شىء، وكل ما يظهر للوجود فلوجوده علة، وأن الأسباب تتبعها النتائج المترتبة عليها.
والسببية من مبادئ الطبيعة، وأيضًا من مبادئ الفكر، وهى مبدأ قرآنى راسخ، فالله سبحانه- كما يقول ابن القيم: «ربط الأسباب بمسبباتها شرعًا وقدرًا، وجعل الأسباب محل حكمته فى أمره الدينى والشرعى وأمره الكونى القدرى ومحل ملكه وتصرفه؛ فإنكار الأسباب والقوى والطبائع جحد للضروريات وقدح فى العقول والفطر ومكابرة للحس وجحد للشرع والجزاء؛ فقد جعل سبحانه مصالح العباد فى معاشهم ومعادهم والثواب والعقاب والحدود والكفارات والأوامر والنواهى والحل والحرمة، كل ذلك مرتبط بالأسباب قائم بها، بل العبد نفسه وصفاته وأفعاله سبب لما يصدر عنه، بل الموجودات كلها أسباب ومسببات، والشرع كله أسباب ومسببات، والمقادير أسباب ومسببات، والقدر جار عليها متصرف فيها، فالأسباب محل الشرع والقدر، والقرآن مملوء من إثبات الأسباب.. ولو تتبعنا ما يفيد إثبات الأسباب من القرآن والسنة لزاد على عشرة آلاف موضع، ولم نقل ذلك مبالغة بل حقيقة، ويكفى شهادة الحس والعقل والفطر؛ ولهذا قال من قال من أهل العلم: تكلم قوم فى إنكار الأسباب فأضحكوا ذوى العقول على عقولهم، وظنوا أنهم بذلك ينصرون التوحيد فشابهوا المعطلة...» (ابن القيم، شفاء العليل فى مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل).
ومن هنا تجب إعادة ضبط هذا العنصر فى رؤية العالم التى يجب أن ينطلق منها أى خطاب دينى جديد، باستبعاد الرؤية السحرية المنكرة للسببية من طرق تفكير المسلمين، واستعادة الرؤية العلمية التى حكمت تقدم طرق التفكير العلمى، والتى أدت إلى تقدم العلوم الرياضية أولًا، ومن بعدها العلوم الطبيعية، ثم العلوم الاجتماعية والإنسانية، والتى أكدها التصور القرآنى للعالم بوصفه محكومًا بالسببية الطبيعية وليس بقوى سحرية أو ميتافيزيقية خارقة.
والمسألة هنا لا تتعلق فقط بالعلم وطرق إنتاجه، بل تتعلق بضرورة تغيير طرق تفكير الناس العادية فى الحياة اليومية وفى العمل والمجتمع والسياسة، ومن ثم يجب فض الانفصام بين العلم الذى يُدرس فى الكتب وطرق تفكير رجل الشارع والمشتغل بالدين أو الإعلام أو غيره من منابر الرأى والتعليم والثقافة