رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بين ثقافة الخلاف والاختلاف



ما زلنا نعيش حول أصداء ذلك السجال الفكرى، الذى دار بين فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب والدكتور محمد الخشت، رئيس جامعة القاهرة، بمؤتمر الأزهر العالمى للتجديد فى الفكر الإسلامى، والذى دار فى الجلسة الختامية لمؤتمر بعنوان «دور المؤسسات الدولية الدينية والأكاديمية فى تجديد الفكر الإسلامى»، حيث رأى الدكتور الخشت ضرورة تجديد التراث الدينى بما يتناسب مع مقتضيات العصر الحديث، وهو ما يستلزم تأسيس بناء جديد بمفاهيم حديثة للوصول إلى عصر دينى جديد. بينما أكد فضيلة شيخ الأزهر على أهمية التراث، وأن رفضه يؤدى إلى ضياع العقول والذهاب إلى المجهول، ولا توجد أى أمة ترفض تراثها، وأن التجديد فى حد ذاته مقولة تراثية وليست حداثية.
الواقع أن هذا المؤتمر برغم أهميته والقضايا الشائكة التى تمت مناقشتها خلاله، إلا أن قضية تجديد الخطاب الدينى هى التى فرضت نفسها على جميع جلسات المؤتمر، وبالرغم من ذلك أيضًا لم تحظ باهتمام المتابعين من عامة الشعب، إلا بعد تلك المساجلة التى تمت بين فضيلة شيخ الأزهر والدكتور رئيس جامعة القاهرة، حيث تلقفها الملايين ما بين مؤيد ومعارض.. وما بين منتقد أسلوب الحوار بينهما.. وما بين المواقع الإلكترونية والمحطات الفضائية التابعة لجماعة الإخوان والتى وجدتها فرصة سانحة لزرع الفتن فى المجتمع المصرى، خاصة بين مثقفيه ورجال الدين به.
بطبيعة الحال فإننى لن أتناول جدلية الحوار، الذى أراه حوارًا بناءً وجادًا افتقدناه منذ سنوات طويلة، وكذلك لن أدخل فى دهاليز الدين والفكر، خاصة أن الجدل حول تلك القضية تشعب كثيرًا ودخل إلى مناطق لا تتناسب مع قدسية الأديان وسماحة الفكر.
ولكننى أرى أن مثل تلك الحوارات أصبحت ضرورة ملحة بين رجال الدين ورجال الفكر، خاصة أن الإسلام يتعرض حاليًا لموجات عاصفة من الكراهية فى العديد من دول العالم، مما ترتب عليه ظهور موجات من التطرف فى الفكر الإسلامى دفاعًا عن الذات، حيث نجح أعداء الإسلام فى استثمار واستغلال تلك العناصر التى تنتهج ذلك الفكر المتطرف وتحولها إلى كيانات إرهابية مسلحة تتزايد أعدادها يومًا بعد يوم، لأنها وجدت من يساندها بالمال والسلاح، ومن هنا كانت مواجهة تلك الكيانات تمثل مسئولية مشتركة ما بين رجال الدين ورجال الفكر وأيضًا السياسة. لقد حاول بعض المغرضين تصوير ذلك الحوار على أنه صراع فكرى أو انقسام داخل المجتمع، بل يسعون إلى تأجيج المشاعر ضد هذا أو ذاك، فى حين أن الحقيقة أنه كان حوارًا بين عالمين فاضلين يجمعان ما بين الغيرة على الدين والتمكن من المعارف الإنسانية وأصول الدين الحنيف.. كذلك فإن الإشكالية الجدلية نشأت منذ نشوء الفكر الإنسانى وسوف تستمر حتى قيام الساعة.. وقد لاحظت أن متابعى تلك المساجلة قد تركوا المؤتمر وتوصياته وما خلص إليه وحاولوا إذكاء روح الفتنة بين ما تناوله الدكتور الخشت وتعقيب الإمام الأكبر عليه، فى حين أن المتابع الحيادى كان لا بد أن يلاحظ العلاقة الشخصية والاحترام المتبادل بينهما عندما أشار فضيلة الإمام إلى أن هناك صداقة بينهما وأيضًا مناوشات فكرية كبيرة، فى حين قال الدكتور الخشت إنه يحترم الأزهر بشدة ويتفق معه فى بعض الأحيان ويختلف معه فى أخرى.. ورغم سمو مداخلة الدكتور وعبقرية رد الإمام، فإن دعاة الفتنة وجدوها فرصة سانحة لتعميقها ومحاولة تصوير أن مصر تشهد فتنة كبرى، وأن الأزهر بعالمية رسالته لم يعد قادرًا على تطوير نفسه، وهو الأمر الذى ينال من مصر واستقرارها وقوتها الناعمة، وعلى رأسها الأزهر الشريف، الذى سوف يبقى أبد الدهر منارة دينية وعلمية وثقافية ليس لها نظير.. بل إن قنوات الفتنة والإثارة راحت تشيع أن هناك ضغوطًا تمارس على فضيلة الإمام لكى يتقدم باستقالته، وهو الأمر الذى من الممكن أن يتسبب فى توتر ومشاكل كبيرة بين الدولة ومؤسساتها الدينية.. والغريب هنا أن جماعة الإخوان راحت تنشر البيانات المنددة بموقف المفكرين والمثقفين الذين ينادون بضرورة العمل على مراجعة الكثير من الأحكام والظواهر السلوكية والأخلاقية التى أساءت للإسلام والمسلمين.. وأعضاؤها يؤيدون موقف الأزهر لمجرد الإثارة فقط وهم أنفسهم من حاولوا الإساءة لفضيلة الإمام فى أعقاب يناير ٢٠١١ وقاموا بوضع السموم فى أطعمة طلبة جامعة الأزهر وافتعلوا المظاهرات لإقالته ومحاكمته، ولكنه تصدى لهم ولم يتخل عن حماية الأزهر الشريف، وكان أول من أيد وناصر ثورة يونيو ٢٠١٣، وكان فى مقدمة الداعمين لها على مرأى ومسمع من العالم بأسره.
إننا إذن أمام بداية لمرحلة مهمة من الحوار الجرىء حول تلك القضية، وإلا فما معنى أن يتبنى الأزهر الشريف مثل هذا المؤتمر العالمى الذى يناقش قضايا تجديد الفكر الإسلامى، ويوجه الدعوة للعلماء المسلمين من ٤٦ دولة للمشاركة فيه، إلا إذا كان جادًا فى مسعاه لتحقيق ذلك؟
ومن هنا نأتى إلى ضرورة العمل على تفعيل فكرة ثقافة الاختلاف واحترام الرأى والرأى الآخر، ومقارعة الحجة بالحجة دون المساس بثوابت الدين.. ولا يعنى هذا أن من يتحاورون أو يختلفون هم بالضرورة أعداء، أو أن كل طرف لا بد أن يوقع بالطرف الآخر.. بل إن كليهما يستهدف غاية واحدة وهى تجديد الفكر الإسلامى وإن اختلفت الوسائل، بل إن كليهما يتحدث من خندق واحد وإن اختلفت أرضيتهما، وإن كليهما يدافع عن الإسلام وتجديد فكره وخطابه، وكلاهما ابن شرعى للدولة المصرية وليس من الخونة الذين باعوا أوطانهم وتاجروا بالدين لكسب منافع مادية أو سياسية.
إننى أتمنى أن يمتد هذا الحوار الثرى بين رجالات الدين والمفكرين المخلصين الذين يضعون مصالح الإسلام الحنيف فوق كل اعتبار، ويعملون على تنقيته مما علق به من دعاوى تصفه بالإرهاب والرجعية، وهو الأمر الذى يستوجب ضرورة المشاركة الفعالة بين الراسخين فى العلم من هنا وهناك، وأن تنأى تلك الحوارات عن دائرة المهاترات التى شاهدناها على صفحات التواصل الاجتماعى والعديد من أنصاف المثقفين ومدّعى العلوم والمعرفة فى أصول الدين، وهو الأمر الذى أفقدها الكثير من قدسيتها ووقارها وفتحت الأبواب للشطط فى الطرح بحيث أساء إلى رموز كثيرة، بل أساء للكثير من الثوابت فى جوهر العقيدة.
لقد حاول البعض أن يصور أن هناك فصلًا بين الأزهر الشريف والدولة فى محاولة خبيثة لإحداث وقيعة بينهما، وهاجم البعض فضيلة الشيخ الجليل والعلماء الأفاضل ودخلت أطراف هى أبعد ما تكون عن قضايا الدين والفكر والمسئولية.. هناك دعوة وجهها الدكتور الخشت لفضيلة الإمام الأكبر لزيارة جامعة القاهرة، ولقاء أبنائه من الأساتذة والدارسين بها، وأن يكون هذا اللقاء امتدادًا لذلك الحوار الذى بدأ فى المؤتمر الأخير، وأن تعقبه لقاءات أخرى لها من الفاعلية والإيجابية ما يمكن أن تتحقق من خلالها تلك الرؤية الإيجابية التى نسعى جميعنا إلى تحقيقها، وهى أن ننأى بإسلامنا عن وصفه بالإرهاب والإقصاء والتطرف والعنف والدعوة إلى الوسطية بين احترام كل ما هو سماوى باليقين مع إطلاق ملكات التفكير العلمى والاجتهادى فى كل ما هو من صنع البشر بلا جحود ولا معصومية ولا تفريط ولا تهاون فى المقدس ولا التراث اليقينى، وهذا هو أحد أهم أبواب الاجتهاد الذى يهدف إلى تحقيق التوازن الدقيق مع الحفاظ على أوامر الله وأصول الدين الحنيف.