رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يا إلهى.. كم تنتهى الأشياء بسرعة مذهلة


تتسرب الحياة من بين أيادينا مثل الماء من مصفاة، يهرب منا الوقت لا ندرى إلى أين أو كيف، أو حتى متى؟ وأحيانًا نفيق مثل بطل قصة تشيخوف «الألم»، وقد صرنا كأنما فجأة فى الستين فقدنا أحباءنا، عاجزين عن الحركة، فنفكر بعد فوات الأوان مثل بطل تشيخوف: «أوه.. يا إلهى.. كم تنتهى الأشياء بسرعة مذهلة فى هذا العالم» ونتمنى لو كانت لدينا فرصة أخرى لحياة ثانية لكى نعيش كما ينبغى بجمال ومحبة وجسارة.
وأظن أن إنجاز نجيب محفوظ معجزة مزدوجة، أدبية من ناحية ومن ناحية أخرى هى معجزة السيطرة على الوقت، بحيث لا تهرب الحياة من بين يديه. ولا أذكر أين قرأت أن زوجته قالت إنه حتى عندما كان إخوته يجيئون لزيارته فإنه لم يكن يجلس معهم أكثر من عشر دقائق، ثم يستأذن منهم، فيقولون له: تفضل. نحن سنجلس مع الأولاد، فينصرف إلى حجرته وعمله.
وأظن أن مشكلة الوقت أو الحياة التى تتسرب من دون أن نشعر كيف، هى مشكلة معظم الأدباء، ثم إنها مشكلة كل إنسان فى الحقيقة لأنها تنطوى على سؤال أعمق: ماذا نفعل بالحياة التى تُوهب لنا مرة واحدة؟ ماذا نصنع بهذه الهدية الثمينة التى لا تتكرر.. ماذا نفعل بها؟
وأظن أن من يعرف لنفسه هدفًا فى الحياة إنسان محظوظ، لكن يتبقى بعد ذلك أن يسيطر على وقته. ومن قراءات كثيرة لاحظت أن عددًا كبيرًا من الكُتّاب والصحفيين والمشتغلين بالفكر، يشكون مر الشكوى من الإنترنت، بصفته أحد أكبر مستهلك لوقت البشر الآن. ذكرنى ذلك بالظهور الأول للفيديو، حين لم يكن للناس عمل سوى جلب شرائط الأفلام ومشاهدتها ليل نهار، ثم هدأت تلك الصرعة وحل محلها الآن الإنترنت.
ويلفت الصحفى البريطانى كريستيان جاريت الانتباه إلى أن إدارة الوقت، أو التحكم فيه، أمر مرتبط برغبات الإنسان وتحمسه لموضوع أو آخر، ويقول: «إننى لا أولى اهتمامًا كافيًا للوقت الذى أهدره فى تصفح الإنترنت لأغراض لا تتعلق البتة بالعمل.. وقد يبدو أن حل المشكلة فى وضع جدول زمنى لأداء المهام المطلوب إنجازها.. لكن علماء النفس يرون الآن خطأ تلك الفكرة، ومنهم تيم بايتشيل، الذى يرى أن عدم التحكم فى الوقت يرجع إلى عدم التحكم فى مشاعرنا أولًا وقبل أى شىء.. إذ قد تكون المهمة المطلوب القيام بها مزعجة لنا نفسيًا ومن ثم نتفادى القيام بها». هكذا يتبين أن إهدار الوقت، وبعبارة أخرى هروب الحياة من بين أيادينا، قد يرجع للحالة الشعورية فى الأساس، إذ إن التحكم فى الوقت مرتبط بالتحكم فى المشاعر. وهناك من بين ما قرأت كتاب طريف بعنوان «يوم من حياة كاتب» ترجمة على زين، لاحظت منه أيضًا أن معظم الأدباء يشكون مر الشكوى من التهام الإنترنت ساعات العمل الثمينة، وعجزهم عن التحكم فى الوقت. وفى ذلك يقول «كى ميللر»، الروائى الحائز على جائزة بوكاس للأدب الكاريبى: «إن الأيام هى تلك الأشياء الرائعة المقسمة إلى ساعات ودقائق مثل شرائح كعكة عيد الميلاد.. لكن هناك الكثير من الملهيات التى أستسلم لها.. فأنا أنصرف عن الكتابة بسبب برامج التليفزيون، وأهم الأخبار فى الصحف، ولعبة (كاندى كراش).. يا إلهى إننى أعترف بذلك».
وتقول «ليندا جرانت» الروائية الإنجليزية: «إننى أحتاج نوعًا من العزلة الشديدة للكتابة، لكن الإنترنت شوه تلك العزلة بقدرته على الإيهام بسهولة البحث عن الأشياء من دون تخطيط».
أما «شارلوت مندلسون»، الحائزة على جائزة «سومرست موم»، فقد توصلت إلى حل لمشكلة الوقت الذى يلتهمه الإنترنت، وتقول: «أخيرًا قمت بتنزيل برنامج فريدوم لحجب الإنترنت على الجهاز عندى» ويشرح الروائى «تيم باركس» أبعاد المشكلة بقوله: «المشكلة الرئيسية التى تواجه الكاتب هى التخطيط للوصول إلى حالة التركيز الشديد والخلاص من وطأة البريد الإلكترونى والإنترنت، وهما الأشد تدميرًا للوقت».
وتقول الروائية ليزا ماكينيرنى: «علىّ وأنا جالسة أمام الكمبيوتر إيقاف شبكة الإنترنت، لأنك تقول لنفسك سأبحث عن هذه الكلمة فقط، ثم تجد أنك أمضيت على الأقل ٤٥ دقيقة على النت.. ولا بد أن يكون هاتفى المحمول بعيدًا فى حجرة أخرى لكى لا أنشغل بلعبة كاسحة الألغام».
هكذا تشغلنا الحياة حتى نفاجأ ذات يوم بأنها تسربت من بين أيادينا، فنقول لأنفسنا: «أوه.. يا إلهى.. كم تنتهى الأشياء بسرعة مذهلة فى هذا العالم».