رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تركيا الأردوغانية وعودة المد العثمانى



الهزيمة الساحقة للسياسة التركية فى مؤتمر برلين كانت بادية بوضوح على وجه أردوغان فى ختام اللقاء.. لم يحضر مأدبة العشاء التى أقيمت للمشاركين، وتغيب عن المؤتمر الصحفى الختامى، ثم غادر العاصمة الألمانية على عجل.. ميركل خشيت من غضبه، وردود أفعاله العصبية، تعللت بتلبية دعوة افتتاح مبنى جديد للجامعة الألمانيةالتركية وزارت أنقرة.. ولكن تبين لها أن مؤتمر برلين لم يُغيِّر المواقف؛ وزير الدفاع خلوصى أكار أقر بمواصلة دعم ميليشيات السراج عسكريًا، متجاهلًا مقررات برلين بشأن «إنهاء التواجد العسكرى الأجنبى فى ليبيا، ووقف عمليات التسليح».. وأردوغان استنكر الاعتراف الضمنى لبعض الدول المشاركة فى المؤتمر بخليفة حفتر، قائد الجيش الوطنى، ودعمه عسكريًا، مشيرًا إلى مصر والإمارات وشركة فاجنر الروسية، واستنكر مغادرته موسكو وبرلين دون الالتزام بوقف إطلاق النار، وأكد أن الدعم العسكرى الذى تقدمه بلاده موجه للحكومة «الشرعية»، ومنصب على الأنشطة التدريبية، ووصفه بـ«حق متولد عن حقوق تاريخية لتركيا فى ليبيا، وتلبية للدعوة التى وجهتها حكومة طرابلس».
الغريب أن يستغل أردوغان فرصة حرص ميركل على ترضيته، لإثارة قضايا أسهم بنفسه فى تعكير المناخ الملائم لتمريرها، مثل انضمام تركيا للاتحاد الأوروبى، وإلغاء دخول الأتراك بتأشيرات إلى دول الاتحاد، وتأسيس اتحاد جمركى مع التكتل، طامعًا فى استغلال ترؤس ألمانيا الاتحاد فى دورته المقبلة.. كذلك فإن إثارته الوضع المتفاقم للاجئين القادمين من سوريا فى طريقهم لأوروبا، ويعيشون فى المخيمات المكتظة بالجزر اليونانية، استهدف التذكير بتهديداته الخاصة بفتح الحدود، إذا لم يحصل على مزيد من المساعدات، إضافة لما سبق الاتفاق عليه ٢٠١٦.. أردوغان يتجاهل مناخ التوتر المتصاعد مع الاتحاد الأوروبى بسبب أعمال التنقيب عن الموارد الطبيعية التى ينفذها شرق المتوسط، ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص، الدولة العضو فى الاتحاد.. الرئيس التركى يعيد أساليب المناكفة التى اتبعتها الدولة العثمانية مع أوروبا، والتى كثيرًا ما انتهت بتعرضها لعمليات تأديب عسكرية، وهو ما لا يحتمله المناخ الدولى الراهن.

الاستراتيجية التركية تعتمد التمدد الخارجى كأداة لاستعادة الوضع التاريخى للإمبراطورية العثمانية، التى كانت تفرض وجودها العسكرى، وتتحكم فى ممرات دولية، وتستغل ثروات مستعمراتها.. الوجود التركى فى الصومال بدأ بزيارة أردوغان ٢٠١١، وإقرار مجموعة من المساعدات، تبعها تمويل مشروعات تنموية ومدارس وإدارة شركات تركية لموانئ مقديشو الجوية والبحرية، وإغراق الأسواق الصومالية بالبضائع التركية، وتنفيذ الخطوط الجوية التركية أولى رحلات مباشرة نحو العاصمة، بجانب افتتاح قاعدة عسكرية تركية لإعداد وتدريب الجنود الصوماليين، هى الأكبر على الإطلاق خارج أراضيها، والأكثر أهمية استراتيجية.. تطل على خليج عدن ومدخل البحر الأحمر من جهة، والمحيط الهندى من جهة أخرى، وتشرف على منطقة القرن الإفريقى كلها.
أردوغان ادعى أن الصومال طلبت من بلاده التنقيب عن النفط والغاز فى المناطق البحرية المحيطة بها.. الدراسات السيزمية أكدت بالفعل احتمال وجود كميات كبيرة من النفط والغاز البحرى، خاصة فى إقليم الصومال الغربى «أوجادين»، والتقديرات تشير إلى أن احتياطى النفط الصومالى قد يزيد على الاحتياطى السعودى.. الحكومة نظمت مؤتمرًا فى لندن لبيع امتيازات التنقيب على الشواطئ الصومالية مع كينيا فبراير ٢٠١٩، ومنحت التراخيص لشركة «إسبكترام» البريطانية النرويجية، لكن رؤساء ثلاثة أحزاب صومالية اعترضوا على الصفقة وطالبوا بإلغائها، ما دعا الحكومة إلى إقرار قانون جديد لتنظيم عمليات استكشاف الطاقة، وتوزيع العائدات، بحيث يحصل الإقليم المنتج للنفط على ٥٠٪، بينما تتقاسم الحكومة الاتحادية والأقاليم غير المنتجة الـ٥٠٪ الأخرى.. الإنتاج التجريبى للنفط فى «أوجادين» بدأ بمعدل ٣٥٠٠ برميل يوميًا، ومن المقرر بناء خط أنابيب لنقله إلى جيبوتى، وتقدر قيمة هذه المشاريع بـ٩ مليارات دولار.. ما سيشجع شركات التنقيب الدولية على الاستثمار.
والحقيقة أن تركيا لا تمتلك أى خبرات مقدرة عالميًا، لا فى مجال البحوث السيزمية، ولا فى عمليات التنقيب.. حاولت لسنوات طويلة دعوة الشركات العالمية الكبرى للبحث عن مصادر الطاقة فى مناطقها البحرية، والمناطق التابعة لشمال قبرص، لكنها رفضت، متعللة بضرورة حل الخلافات الحدودية مع اليونان وقبرص أولًا.. فقامت بصناعة وشراء وتطوير قطع بحرية للبحث والتنقيب، لكنها لم تنجح حتى الآن فى تحقيق أى اكتشاف، أو التأكيد بوجود احتمالات واعدة، واكتفت بأن جهودها تعطى مظهر الاعتماد على النفس، وتطوير قدراتها الذاتية، وفرض الأمر الواقع فيما تراه حقوقًا تركية، لكنها لا تتوقع الكثير من النتائج.. لذلك فإن توجهها نحو الصومال وليبيا لا يتعلق بأهداف اقتصادية بقدر ارتباطه بدوافع سياسية واستراتيجية.
إعلان تركيا عزمها التنقيب عن النفط فى الصومال استهدف تحقيق ما يلى: الرد على تأسيس مجلس الدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن بالرياض ٦ يناير ٢٠٢٠، والزهو بالسيطرة على الصومال عضو المجلس.. فتح بؤرة صراع جديدة مع الدول العربية، ردًا على نجاح حملتها ضد تركيا والسراج فى مؤتمر برلين.. التعويض عن خسارة تركيا قاعدة «سواكن» بعد الإطاحة بالبشير فى السودان.. ترسيخ المصالح وتعميق «سياسة الانفتاح» على الدول الإفريقية التى بدأتها ٢٠٠٥، بهدف توفير أسواق لمنتجاتها، وكسب أصواتها فى المحافل الدولية.. دعم موقفها فى مواجهة منافسيها الرئيسيين بمنطقة القرن الإفريقى، خاصة الإمارات والسعودية ومصر.. ضمان دعم الصومال المواقف السياسية لتركيا تجاه القضايا المختلفة، ونشير هنا إلى رفض الصومال إدانة العملية العسكرية التركية فى شمال سوريا، رغم ضغوط الدول الأعضاء بالجامعة العربية، وعلى رأسها السعودية والإمارات.
الحكومة الصومالية ربما وجدت فى الادعاء التركى مساسًا بمصالحها الاقتصادية، وعلاقاتها مع الدول العربية، كما يعرضها لانتقادات داخلية، لذلك نفى وزير البترول والمعادن الصومالى لقناة «بى بى سى» صحته، مؤكدًا أن القانون الخاص بالتنقيب عن الموارد الطبيعية ينتظر تصديق رئيس الجمهورية، بعدها يصبح نافذًا، ويمكن فى فبراير أو مارس استقبال عروض التنقيب، وأضاف: «سنكون منفتحين على جميع عروض شركات البترول.. علاقاتنا بتركيا جيدة، ولكن لا يوجد أى استثناء أو وضع خاص لأى شركة».. والحقيقة أن الحكومة بذلك تحاول تجنب تصاعد المعارضة الداخلية للوجود التركى، التى تحولت إلى عمليات تعرضية كبيرة.. عدد من المهندسين الأتراك أصيبوا فى تفجير ديسمبر ٢٠١٩ بمقديشو.. والعملية الانتحارية فى ١٨ يناير ٢٠٢٠ استهدفت موكبًا للعاملين بشركة بناء تركية جنوب العاصمة.

السياسة العدائية التركية مستمرة ضد دول شرق المتوسط، بإعلانها قرب البدء فى التنقيب عن الغاز الطبيعى بموجب اتفاق ترسيم الحدود البحرية والمناطق الاقتصادية غير القانونى مع السراج.. والأخطر، هو توجه سفينة التنقيب «يافوز» إلى جنوب مدينة ليماسول القبرصية، استعدادًا للحفر فى المربع رقم «٨»، هذا المربع يفصل بين حقل أفروديت والساحل القبرصى، وسبب اختيار تركيا له رغم وضعه المستفز، هو أن مخابراتها نجحت فى سرقة بيانات تقنية تتعلق بنتائج البحوث السيزمية التى أجريت على هذا المربع، والتى بناء عليها قامت شركتا «إينى» الإيطالية و«توتال» الفرنسية بتحديد إحداثيات حفر آبار الغاز، وهى نفس الإحداثيات التى تعتزم تركيا الحفر فيها.. أمريكا وصفت الإجراء التركى بالاستفزازى، وحثت السلطات التركية على وقف عملية التنقيب، لكن قبرص واليونان، وإيطاليا وفرنسا التابعة لهما الشركات صاحبة امتياز التنقيب فى المربع، ما زالت صامتة.. رغم أن ترجيح احتمالات استخراج الغاز هذه المرة نتيجة لدقة إحداثيات الحفر، سيؤدى إلى نتائج بالغة الخطورة.

زيارة أردوغان الجزائر كانت ضمن جولة إفريقية شملت جامبيا والسنغال، وهى استكمال لزيارته تونس، بهدف البحث عن طرق إمداد وقواعد ارتكاز تسمح له بدفع مختلف صور الدعم إلى ليبيا.. الجزائر تعاملت مع الزيارة بحكمة؛ تمسكت بإدارة الأزمة فى ليبيا وفق مقررات برلين، وتجنبت إثارة الاختراقات التركية قرارات الحظر على الأسلحة، ودفعها للمرتزقة تعزيزًا لصفوف السراج، وأعطت أولوية للتعاون الاقتصادى مع تركيا تجنبًا للإشكاليات المتعلقة بالأمور السياسية، خاصة فى ظل تركيز أردوغان على المقارنة بين ما تتعرض له تركيا من مشكلات نتيجة للمواجهة مع التنظيمات الإرهابية فى سوريا، والتأثير المباشر للأزمة الليبية على الجزائر، وتأكيده عدم السماح بتحول ليبيا إلى مرتع للمنظمات الإرهابية وبارونات الحرب.. أردوغان يناور بخداع، فهو يوحى بأنه يواجه أزمة، هو الشريك الرئيسى فى صنعها، بدولة هو غير معنى بها.

تركيا تنتهج سياسة نشطة، تعتمد على تحركات عدائية من محاور متعددة، تراهن فى نجاحها على التزام دول المنطقة بسياسة المهادنة، بنتائجها الكارثية.. المواجهة السياسية المكثفة مطلوبة فى المرحلة الراهنة، بما فيها اللجوء إلى الأمم المتحدة ومنابر التحكيم الدولى، إضافة للاتحاد الأوروبى، وقد نجحت حتى الآن فى مواجهتها.. لكن الأمر يفرض المتابعة المستمرة.. فضح أبعاد عدوانية السياسة التركية مسألة بالغة الأهمية، حتى لا نفاجأ بمواقف مماثلة لموقف الصومال فى الجامعة العربية من التدخل التركى بالشمال السورى.. وهو موقف لا يحسب لتركيا، بقدر ما يحسب على العرب.