الأسطورة رأفت الهجان.. سر الوصية التي كتبها الصقر المصري
هذه وصيتي أضعها أمانة في أيديكم الكريمة السلام على من اتبع الهدى «بسم الله الرحمن الرحيم إنّا لله وإنّا إليه راجعون لقد سبق وتركت معكم ما يشبه وصية، وأرجو التكرم باعتبارها لاغية، وها أنا ذا أقدم لسيادتكم وصيتي بعد تعديلها إلى ما هو آت: في حالة عدم عودتي حيا أرزق إلى أرض الوطن الحبيب مصر أي أن تكتشف حقيقة أمري في إسرائيل، وينتهي بي الأمر إلى المصير المحتوم الوحيد في هذه الحال، وهو الإعدام شنقا» بهذه الوصية رحل عن عالمنا رجل خدم مصر بدون اي مقابل سواء الحب والدفئ الذي لم يحظي به بداخلها، وهو رأفت الهجان هو الاسم الحركي لـ«رفعت علي سليمان الجمال».
* عاش في الظل ومات في الظل
ولد «الجمال» في مدينة دمياط في 1 يوليو 1927، حيث كان والده يعمل في تجارة الفحم أما والدته فكانت ربة منزل تحدرت من أسرة مرموقة وكانت والدته تجيد اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وكان له شقيقان هما «لبيب ونزيهه » إضافة إلى أخ غير شقيق هو «سامي»، وله أبن واحد، فقط تزوج في أكتوبر عام 1963 بآلي فالفرود وهي امرأة ألمانية مطلقة لديها طفلة في كنيسة بطقوس دينية كاملة.
وبعد ذلك بسنوات تحديدا في عام 1936 توفي «علي سليمان الجمال»، توفي بعد معاناته بمرض سرطان الرئة عام 1982 في مدينة دارمشتات القريبة من فرانكفورت بألمانيا ودُفن فيها.
إلا أنه لا يحمل الجنسية المصرية، حيث أن المخابرات المصرية وفي إطار الإعداد للعملية قد قامت بإزالة كل الأوراق التي قد تثبت وجود «الجمال» من كل الأجهزة الحكومية وبالتالي لا يستطيع ابنه الحصول على جواز السفر المصري الأمر الذي أدى بزوجته وابنه أن يقدموا التماسا لرئيس الجمهورية السابق محمد حسني مبارك لاستغلال صلاحياته في إعطائه الجنسية، إلا أن طلبهما قوبل بالرفض لعدم وجود ما يثبت بنوته لرجل مصري.
كان طالبا مستهترا لا يهتم كثيرا بدراسته، وبرغم محاولات أخيه سامي أن يخلق من رفعت رجلا منضبطا ومستقيما إلا أن رفعت كان على النقيض من أخيه سامي فقد كان يهوى اللهو والمسرح والسينما بل انه استطاع ان يقنع الممثل الكبير بشارة واكيم بموهبته ومثل معه بالفعل في ثلاثة أفلام، لذا رأى إخوته ضرورة دخوله لمدرسه التجارة المتوسطة رغم اعتراض «رفعت» على إلحاقه بمثل هذه النوعية من المدارس.
* إتقان اللغة ببراعه
في هذه المدرسة بدأت عيناه تتفتحان على البريطانيين وانبهر بطرق كفاحهم المستميت ضد الزحف النازي، تعلّم الإنجليزية بجدارة، ليس هذا فقط بل أيضا تعلم أن يتكلم الإنجليزية باللكنة البريطانية، وتعلم الفرنسية بلكنة أهل باريس.
وتخرج في عام 1946 وتقدم بطلب لشركة بترول أجنبية تعمل بالبحر الأحمر للعمل كمحاسب واختارته الشركة برغم العدد الكبير للمتقدمين نظرا لإتقانه الإنجليزية والفرنسية ثم طُرد من الوظيفة بتهمة اختلاس أموال، وعمل كمساعد لضابط الحسابات على سفينة الشحن «حورس»، وغادر مصر لأول مرة في حياته على متن السفينة وطافت «حورس» طويلا، وفي النهاية رست في ميناء ليفربول الإنجليزي لعمل بعض الإصلاحات وكان مقررا أن تتجه بعد ذلك إلى بومباي الهندية.
وهناك في ليفربول وجد عرضا مغريا للعمل في شركة سياحية وبعد عمله لفترة مع تلك الشركة غادر إلى الولايات المتحدة دون تأشيرة دخول أو بطاقه خضراء، وبدأت إدارة الهجرة تطارده مما اضطره لمغادرة أمريكا إلى كندا ومنها إلى ألمانيا واتهمه القنصل المصري ببيع جواز سفره ورفض اعطائه وثيقة سفر بدلا عن جواز سفره، فألقت الشرطة الألمانيه القبض عليه ثم رحلته قسرًا لمصر.
ومع عودة «رفعت» إلى مصر، بدون وظيفة، أو جواز سفر، وقد سبقه تقرير عما حدث له في «فرانكفورت»، وشكوك حول ما فعله بجواز سفره، بدت الصورة أمامه قاتمة إلى حد محبط، مما دفعه إلى حالة من اليأس والإحباط، لم تنته إلا مع ظهور فرصة جديدة، للعمل في شركة قناة السويس، تتناسب مع إتقانه للغات.
ولكن الفرصة الجديدة كانت تحتاج إلى وثائق، وأوراق، وهوية، هنا بدأ يقتحم عالم التزوير، وتعرَّف على مزوِّر بارع، منحه جواز سفر باسم «علي مصطفى»، يحوي صورته، بدلا من صورة صاحبه الأصلي وبهذا الاسم الجديد عمل في شركة قناة السويس، وبدا له وكأن حالة الاستقرار قد بدأت.
وبعدها قامت ثورة يوليو 1952، فقرَّر ترك العمل في شركة قناة السويس، وحصل على جواز سفر مزور اخر، لصحفي سويسري،، وهكذا أصبح الحال معه من اسم لاسم ومن شخصية مزورة لشخصية أخرى إلى أن ألقي القبض عليه من قبل ضابط بريطاني أثناء سفره إلى ليبيا بعد التطورات السياسية والتغيرات في 1953 واعادوه لمصر واللافت في الموضوع انه عند إلقاء القبض عليه كان يحمل جواز سفر بريطاني إلا أن الضابط البريطاني شك أنه يهودي وتم تسليمه إلى المخابرات المصرية التي بدأت في التحقيق معه على أنه شخصيه يهوديه.
بعد محاولات عديدة إتسمت بالشد والرخي من قبل ضابط البوليس السري حسن حسني، عُرض خياران للهجان إما السجن وإما محو الماضي بشخصيته بما فيه رفعت الجمال وبداية مرحله جديده وبهوية جديدة ودين جديد ودور قمة في الأهميه والخطورة والعمل لصالح المخابرات المصرية.
وبعد أن وافق رفعت الجمال على هذا الدور بدأت عمليات تدريب طويله وشرحوا له أهداف الثورة بالإضافة إلى عادات وسلوكيات وتاريخ وديانة اليهود وتعلم كيف يميز بين اليهود الاشكناز واليهود السفارد وغيرهم من اليهود.
انتهى «رفعت الجمال» وولد «جاك بيتون» في 23 اغسطس 1919 من أب فرنسي وأم إيطالية وديانته يهودي اشكنازي، وصار له جواز سفر إسرائيلي صادر من تل أبيب، انتقل للعيش في الإسكندرية، وحصل على وظيفة مرموقة في إحدى شركات التأمين وانخرط في هذا الوسط وتعايش معهم حتى أصبح واحدا منهم، وكانت له علاقة صداقة وطيدة بينه وبين موشي ديان، عيزر وايزمان، شواب وبن غوريون.
وتمكن من إقامة مصالح تجارية واسعة وناجحة في تل أبيب وأصبح شخصية بارزة في المجتمع الإسرائيلي، وحسب الرواية المصرية فإن الهجان قام ولسنوات طويلة بالتجسس وإمداد جهاز المخابرات المصري بمعلومات مهمة تحت ستار شركة سياحية وزود بلاده بمعلومات خطيرة منها موعد حرب يونيو لسنة 1967، وكان له دورا فعالا في الإعداد لحرب أكتوبر سنة 1973 بعد أن قدم لمصر تفاصيل عن خط بارليف.
وأحدثت هذه الرواية هزة عنيفة لأسطورة تألق الموساد وصعوبة اختراقه، وتم اعتبار الهجان بطلًا قوميًا في مصر عمل داخل إسرائيل بنجاح باهر لمدة 17 سنة، وتم بث مسلسل تلفزيوني عن حياة الهجان، وجسد دوره الفنان القدير الراحل محمود عبد العزيز.