رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ضرورة تجديد الخطاب الدينى


«وجدت هنا إسلامًا ولم أجد مسلمين.. وفى ديار الإسلام وجدت مسلمين ولم أجد الإسلام».. هذه جملته الشهيرة التى قالها الإمام الراحل محمد عبده منذ ما يقرب من قرن ونصف القرن من الزمن أثناء رحلته إلى فرنسا، حيث انبهر بما رآه من نهضة وتنمية وحضارة، ومنذ هذا الوقت وللآن، لا تزال هذه العبارة تنطبق على ما يحدث من الجماعات الظلامية من استخدام الدين لتحقيق أغراض سياسية والمشاركة فى خطط دولية لإضعاف منطقتنا العربية وتدمير دولها منذ يناير ٢٠١١ وما تلاها.
هذه الجماعات الظلامية المتطرفة لا تزال تواصل خططها بأشكال مختلفة، بينما تطلق على نفسها إسلامية، وتتخذ الدين غطاءً لنشر مفاهيم التطرف والتشدد والعنف، وكان الإمام محمد عبده موقنًا بأن المشكلة ليست فى الدين، وإنما فى الفهم الخاطئ للدين، وما تراكم على هذا الفهم من أفكار استمرت فى الوجود، واكتسبت قداسة طمست حقيقة الإسلام الذى يدعو للبناء والرقى المادى والروحى باتساع المكان والزمان ووفق متطلبات كل عصر، وحدث ما نادى بفكره الثاقب حيث كان يرى أن استخدام الدين مطية للسياسة يضر بالدِّين والسياسة معًا، وكانت نظرته تتمحور حول المطالبة بإبعاد رجال الدين عن حكم الشعوب.
ولقد رأينا وعايشنا ما حدث فى بلدنا حينما قفزت جماعة الظلاميين على أحداث يناير ٢٠١١، وعلى السلطة لمدة عام لتحقق خططها التدميرية لإضعاف الوطن من خلال استخدام الدين والولاء للتنظيم وليس الوطن، ورأينا وعايشنا وعانينا أيضًا فى بلدنا ما اقترفه هؤلاء من جرائم وما سكب من دماء مصرية بسبب ممارساتهم الإجرامية البعيدة كل البعد عن الإسلام الصحيح.. وفى مواجهة هذا العداء الذى أظهروه للشعب المصرى والممارسات الإجرامية ضده من قبل جماعة الظلاميين والجماعات المتطرفة المنبثقة عنها، دعوة الرئيس عبدالفتاح السيسى لتقديم خطاب دينى عصرى يتفاعل مع احتياجات المجتمع المصرى ويصحح المفاهيم الدينية المغلوطة.
وبدأ نوع من الحراك لتخفيف حدة الفتاوى المتطرفة والمفاهيم المغلوطة التى انهالت علينا بعد أحداث ٢٥ يناير ٢٠١١، وبدأ الأزهر ينتبه لأهمية تجديد الخطاب الدينى ومراجعة المناهج الدراسية فى الجامعة، واستهدفت دار الإفتاء قيادة قاطرة تجديد الخطاب الدينى، والتصدى لما تقوم به الجماعات المتطرفة من نشر الفوضى والتطرف فى الفتاوى، كما فتحت وزارة الأوقاف الباب للأزهريات للعمل واعظات متطوعات، وهناك حاليًا أكثر من ٢٠٠٠ واعظة فى المساجد الكبرى لنشر الوسطية والتركيز على قضايا الأسرة والمرأة المسلمة، وهكذا نجد أن قدر مصر أن تقود قطار التجديد والتغيير والتطوير، وأن تبدأ منها مرة أخرى دعوات التنوير، كما بدأت إبان نهاية القرن التاسع عشر.
إن تولى ريادة المنطقة فى التنوير والثقافة والفنون هو قدر مصر وهو رسالة لا بد أن تقوم بها مؤسساتها المنوطة بهذا الدور، ولا بد أن يتكاتف ويتعاون معها المجتمع المدنى ليكون الهدف مشتركًا ويكون الجهد مضاعفًا، ولننجح فى بناء إنسان مصرى حديث وسوى ومتقدم ومواكب للعصر، ولهذا فإن المؤتمر الدولى الذى بدأت أعماله أمس فى القاهرة بمشاركة ٤٦ دولة، والذى يقام تحت رعاية كريمة من الرئيس عبدالفتاح السيسى، والذى تنظمه مؤسسة الأزهر الشريف بحضور شخصيات سياسية ودينية وقيادية رفيعة المستوى، لبحث التجديد فى الفكر الإسلامى، وتفكيك المفاهيم المغلوطة وقضايا المرأة والأسرة، وإبراز المواطنة- يمثل فى تقديرى خطوة مهمة للأمام قد تسفر عن نتائج إيجابية تتجه بنا إلى تقديم مفاهيم أكثر استنارة وتقدمًا بالمجتمع، وأن تبادل الخبرات والآراء بين المشاركين، لا شك أنه سيمكننا من إيجاد سبل أفضل للتصدى للفتاوى المتطرفة التى أغرقتنا بمفاهيم رجعية ومتخلفة تحط من شأن المرأة، وتؤدى إلى بث الكراهية والفتن بين أبناء الوطن الواحد.
ونأمل أن يسفر هذا المؤتمر أيضًا عن تنقية وتطوير الكتب الدراسية التى تبث التطرف والتشدد فى نفوس النشء والشباب، وأن يكون حافزًا للتصدى للدعاة الجدد الذين ينشرون أفكار التطرف ويبثون الكراهية والفتنة والعنف والتكفير، والذين يصعب حصر عددهم الآن، وأن يكون تفسير الدين من خلال دعاة مستنيرين لديهم تصريح رسمى ومعتمدين من الأزهر الشريف، إننا نريد ألا يعتلى المنابر والمساجد إلا من يتحلون بالوسطية ويقدمون الوجه المضىء للإسلام الصحيح الذى ينشر الرحمة والتسامح والمحبة بين الناس.
إن هذا المؤتمر الدولى ما كان يمكن أن ينعقد فى القاهرة لولا المكانة المرموقة التى تحظى بها مصر الآن بين دول العالم بفضل جهود «السيسى» وزياراته لدول العالم، وتقديم صورة مصر المتحضرة التى تبعث برسائل سلام وأمان وتحارب الإرهاب الأسود، وتتصدى له منذ سنوات وحدها وبتضحيات جنودها وصمود شعبها وقياداتها الوطنية المستنيرة التى تتحرك بسرعة هائلة فى البناء والتعمير وبناء الإنسان على أسس حديثة وتحقيق الأمن والأمان للشعب المصرى العريق والرافض للتطرف والتفسيرات المتشددة.
إننا نأمل أن يسفر المؤتمر الدولى الذى ينظمه الأزهر الشريف عن توصيات تتحول إلى خطوات فعلية إلى الأمام وإلى التقدم من أجل دحر التشدد المقيت والتطرف الكريه الذى يهدف إلى التفرقة بين أبناء الشعب الواحد.. إننا شعب عرف بالوسطية والاعتدال وحب الحياة والبهجة والبناء، ونريد أن نكون هكذا.. ولم يكن مقبولًا أن تستمر هذه المفاهيم المغلوطة التى تدعو إلى احتقار شأن المرأة، وإلى تكفير الآخر، أو التى تعيدنا إلى متاهات لا نهائية من التخلف والتشتت والتحجر.
إن العالم من حولنا يتحرك إلى الأمام، ومن حق الشعب المصرى أن يحافظ على هويته العريقة، وأن يتخلص من تبعات فكر ظلامى عقيم لم نر منه سوى مفاهيم عقيدة تدعو للتخلف والعودة إلى عصور الظلام، ومن حق الشعب المصرى أن يعيش فى ظل مناخ من التنوير والنور والوسطية ورحابة الدين الإسلامى الذى أنزله الله نورًا للعالم، ومن حقنا أن نأمل مع هذا المؤتمر الدولى ومحاوره المهمة فى نقله نوعية تضع مصر فى مكانها اللائق كمنارة للتنوير، وهو هدف نأمل أن يكون فى مقدمة أولويات مؤسساتنا الدينية كالأزهر الشريف ووزارة الأوقاف ودار الإفتاء ومؤسساتنا التعليمية كلها وبلا استثناء.