رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مواقف رائعة من بطريرك منقاد بروح الله


البابا كيرلس السادس، البطريرك ١١٦، الذى تمتعنا بأبوته الصادقة وقدوته الحقة فى التواضع والبذل والبساطة والمحبة غير المحدودة واهتمامه بالصغير والكبير وعطفه المذهل على المحتاجين- لم يكن فى احتياج لحراسة خاصة، إذ كان محاطًا بالملائكة والقديسين، أليس هو الذى كان شعاره «أما أنا فصلاة»، من هنا لم ينزلق فى فلسفات هدامة للكنيسة ولا المجتمع. ولأننى كنت بالقرب منه منذ طفولتى المبكرة وحتى قبل انتقاله المفاجئ فى ٩ مارس ١٩٧١. لذلك- بكل أمانة وتدقيق- أسجل الكثير من الذكريات والمواقف التى تكشف بصدق عن حكمته- ليست البشرية- فقد كان منقادًا بروح الله بالحقيقة.
حدث فى ١٩ أبريل ١٩٥٩ أن قام قائمقام البطريرك الأنبا أثناسيوس، مطران بنى سويف الشجاع، والملتزم بقوانين الكنيسة وتقاليدها، بإجراء «قرعة هيكلية» نزيهة جدًا تكشف عن تدخل الله فى اختيار الجالس على كرسى القديس مرقس. فكانت القرعة بين ثلاثة رهبان- طبقًا لتقليد كرسى الإسكندرية- وكانوا القمص دميان المحرقى «وكيل بطريركية الإسكندرية»، والقمص أنجيلوس المحرقى، والقمص مينا البراموسى المتوحد. وأسفرت القرعة عن اختيار الله- وليس اختيار القائمقام- القمص مينا البراموسى المتوحد، فكان اختيارًا صادف أهله، وتهلل الشعب القبطى لما كانوا يعرفونه عن شخصية هذا الراهب البسيط. وفى ١٠ مايو ١٩٥٩ تمت رسامته أسقفًا على الإسكندرية ومن ثم حمل- باستحقاق ومباركة من الرب- لقب بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية باسم البابا كيرلس السادس، الذى عاش فقيرًا فى المال، غنيًا فى الروح.
وضع البابا كيرلس السادس بعد ذلك تقليدًا طيبًا- سار على نهجه بعد ذلك البابا شنودة الثالث- وهو أن إخوته فى القرعة الهيكلية اختارهم ليكونوا أساقفة على إيبارشيات مختلفة. فاختار القمص دميان المحرقى لإيبارشية «الخرطوم» بالسودان، واختار القمص أنجيلوس المحرقى لإيبارشية بنها وقويسنا والقليوبية. ومن ثم أصبح منصب «وكيل بطريركية الإسكندرية» شاغرًا. فقام البابا كيرلس السادس باختيار الراهب «إسرائيل البراموسى» لهذا المنصب. وهنا هرع إلى البابا كيرلس جماعة من الملمين بالسياسة وقالوا له: «كيف تختار راهبًا لوكالة الإسكندرية ويحمل اسم (إسرائيل)، ونحن فى عداوة مع إسرائيل، كما أن الرئيس عبدالناصر سيرفض هذا التعيين»، وبحكمة بالغة من البابا كيرلس نظر إليهم مبتسمًا وقال لهم: «لا تغضبوا، سنغير اسمه من إسرائيل إلى يعقوب»، وهذا التغيير له قصة لطيفة فى العهد القديم، ملخصها: «ورد فى سفر التكوين لموسى النبى أن (يعقوب) نال لقب (إسرائيل) وتعنى باللغة العبرية (مصارع الرب)، حيث إن الرب ظهر إلى يعقوب على صورة إنسان، ودخل يعقوب فى صراع مع هذا الإنسان حتى الفجر ورفض يعقوب أن يطلقه قبل أن يباركه، ومن هنا دعا اسمه (إسرائيل)». وفعلًا تم تعيين القمص يعقوب البراموسى وكيلًا بالإسكندرية. أيضًا حدث بعد أن تولى البابا كيرلس مهام البطريركية ولضبط الحياة الرهبانية أصدر قرارًا فى عام ١٩٦٠ بضرورة عودة جميع الرهبان الذين كانوا خارج أديرتهم إلى أديرتهم، قلة منهم لم تعد!! حدث فى نحو عام ١٩٦٢ أن البابا كيرلس فكر فى زيارة القدس وتم أخذ جميع الموافقات وإعداد جميع الترتيبات الخاصة بالزيارة. وفى ليلة السفر «نعم ليلة السفر» أعلن البابا للمحيطين به عن عدم سفره!! أصيبوا بالدهشة وحاولوا معه لكى يثنوه عن قراره، لكن دون فائدة!! حدث فى اليوم المحدد الذى كان من المفترض أن يكون فيه البابا بالقدس أنه تم توزيع منشور فى القدس يفيد بأن البابا كيرلس أثناء وجوده بالقدس تقابل مع مسئولين إسرائيليين!! ولأن البابا كيرلس أصلًا لم يسافر فقد علمت الجهات الأمنية المصرية أن هذا المنشور مزور، وبالتحرى توصلوا إلى أن وراء هذا المنشور راهبًا موجودًا بالقدس ورفض العودة إلى ديره فقام بتزوير هذا المنشور لإحراج البابا كيرلس مع الدولة. وفعلًا بالتحقيق مع الراهب تأكدوا أنه قام فعلًا بهذا الأمر. لكن البابا كيرلس عندما علم بأمر القبض على الراهب طالب بالإفراج عنه وقال لهم: «ده ابنى، اتركوه حُرًا»، توجه الراهب إلى البابا كيرلس نادمًا على ما فعله وطلب العفو. فعلًا كان رجل الله بالحقيقة وكان أبًا حقيقيًا حتى للذين حاولوا أن يسيئوا إليه. حدث فى شهر يونيو ١٩٦٢ كانت زيارة لمدينة القديس مينا الأثرية بمريوط، وكان البابا كيرلس موجودًا، حيث رأس الصلاة ومعه شعب من الكنيسة المرقسية بالأزبكية وشعب من الإسكندرية والبعض من البحيرة. وبعد انتهاء الصلاة لم يتناول البابا أى طعام بل جلس يستقبل أولاده ويستمع لمشاكلهم ويخفف آلامهم، فوجدنا شمامسة الكنيسة المرقسية بالأزبكية قد اصطفوا حول البابا مرددين ترنيمة رائعة قاموا بتنظيمها جاء فيها: «صلاتك تحل المشكلات.. وتبين كمان المؤامرات.. وتفضح كل التزويرات.. يا بابا الأنبا كيرلس». وما زالت كلماتها ترن فى أذنى بل أحفظها عن ظهر قلب، على الرغم أننى كنت أبلغ من العمر وقتها ١٢ عامًا. كثيرًا ما كان يردد على مسامعنا: «يا ابنى دارى على شمعتك تنور»، وكم من شموع أضاءها البابا. فى فترة مرضه الأخير رفض السفر للعلاج بالخارج، على الرغم من أن الرئيس عبدالناصر سبق وأخبره عن مصحة طبية بروسيا للعلاج، لكنه شكر الرئيس وفضّل أن يظل بمصر. وعندما اشتد عليه المرض- فى فترة الرئيس السادات- كلف د. محمود فوزى، رئيس الوزراء وقتها، ود. عبده سلام، وزير الصحة بإعداد مستشفى محلى بالمقر البابوى بالقاهرة، واستدعوا طبيبًا شابًا د. ميشيل جرس ليكون مرافقًا للبابا ويقيم بجوار حجرته. يذكر د. ميشيل أنه فى أول ليلة له بالمقر البابوى حضر إليه عم وديع- الذى كان يعد الطعام للبابا- وأحضر صينية طعام مغطاة بورق جرائد!! وكان اليوم أربعاء «الأقباط يصومون أسبوعيًا يومى الأربعاء والجمعة» وكان الطعام به فراخ!! فلم يتناول د. ميشيل الطعام وعندما حضر عم وديع لأخذ الصينية وجد أن الطبيب لم يأكل شيئًا، وهنا قال عم وديع: «هذه تعليمات البابا لنا بالنسبة لك». وبعد فترة دخل د. ميشيل على البابا لعمل بعض الفحوصات الطبية، فقال له البابا: «يا حبيب أبوك لماذا لم تأكل؟» فأجابه: «اليوم أربعاء ويوجد صوم»، فقال له: «أنا عارف أنه يوجد صوم، لكن يا ابنى أنت هنا هتتعب كتير معانا، كُل الطعام الذى يُقدم لك وربنا يباركك». يذكر لى د. ميشيل أن البابا كيرلس كان السبب فى أن هذا الشاب كسر صوم الأربعاء، فقد وضع على نفسه أن يزيد ساعات الصوم الانقطاعى دون أكل أو شرب. كان أبًا حقيقيًا وكان رجل الله. ليت أيام البركة هذه تعود.