رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الجمعية الشرعية والعصر العثمانى «1-2»


فى إحدى جولاتى عند باعة الكتب على الأرصفة، وقع نظرى بالصدفة على كتاب أخضر اللون، بحجم كتاب الجيب، شدنى إلى هذا الكتاب عنوانه «دولة الخلافة العثمانية»، وبحكم تخصصى الأصلى وجدتنى أتفحص الكتاب، وكان المثير لدىّ العنوان الفرعى للكتاب «ملفات ساخنة: قضايا وهموم الأمة الإسلامية»، وظننت الكتاب من نوعية بعض الكتب التى يصدرها بعض الهواة فى مديح الدولة العثمانية؛ لتجد سوقًا رائجةً فى بعض البلدان، وهى كتابات أبعد ما تكون عن التاريخ، وفى ظنى أنها تضر تاريخ الدولة العثمانية أكثر مما تنفعه، لأنها تأخذ أقصى اليمين فى مديح الدولة العثمانية، فيخرج تيار آخر، وطنى أو عروبى ليرد عليها ويأخذ أقصى اليسار، وهكذا يضيع التاريخ فى الوسط.
لكن ما جذب انتباهى وأثار شهيتى كمؤرخ صدور الكتاب عن «الجمعية الشرعية الرئيسية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية»، وتحديدًا عن الجهة العلمية بها «هيئة علماء الجمعية الشرعية»، وكان سؤالى: وما بال الجمعية بالتاريخ؟ والتاريخ العثمانى على وجه الخصوص، كما أن اسم المؤلف ليس من الأسماء المعروفة فى حقل الدراسات العثمانية.
ومن مطلع الكتاب نلاحظ عملية ممنهجة للتأسيس لتاريخ مقدس للخلافة العثمانية، ثم عملية استدعاء للتاريخ من أجل إحياء الخلافة من جديد، يتضح ذلك جليًا من مقدمة الكتاب، حيث يمهد لمشروعه الذى أشرنا إليه:
«إن الأمم العظيمة والشعوب العريقة تولد بعقيدتها وتحيا بذاكرتها.. وبالذاكرة تتذكر الأمم عناصر قوتها وأسباب رفعتها فيما مضى من تاريخها؛ فتبنى حاضرها ومستقبلها على نهجها.. وعندما تذبل الذاكرة فى أمة من الأمم تذبل وعندها تموت.. تموت».
هكذا يمهد الكتاب قارئه لاستقبال التاريخ المقدس، وعملية استدعاء التاريخ لإحياء الخلافة، ويؤكد ذلك الخاتمة التى انتهى بها الكتاب، حيث يظن الكاتب أنه أوصل القارئ إلى ما يريد، فيُنهى كتابه بخاتمة ملحمية تشيد بالماضى وتبشر بالمجىء الجديد وعودة الخلافة، ومن خلال لغة وعظية:
«وفى الختام فهذه دولة الخلافة العثمانية.. ملحمة من ملاحم التاريخ.. وأسطورة من أساطير الزمان.. ورواية تروى على مر العصور وعبر الأجيال... طمس تاريخها الكافرون، وغفل عنها المسلمون.. حتى لا يعلموا أن جند الله هم الغالبون».
هكذا وصلت الرسالة؛ التأسيس للتاريخ المقدس، ثم عودة الروح من جديد للخلافة، فلن يصلح حال آخر الأمة إلا بما صلح به أولها، وهنا نحن أمام نظرة سلفية بامتياز للتاريخ.
ويؤكد الكتاب على التاريخ المقدس للخلافة، وبأنها تركة الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين، ويستبدل مقولة (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدًا؛ كتاب الله وسنة رسوله) بقول:
«وترك لهم- الرسول- حبلًا متينًا يعتصمون به ويجتمعون عليه، إن تمسكوا به اجتمعت صفوفهم وتوحدت أمتهم؛ فقويت أركانها واشتد بنيانها وسادت الدنيا بأسرها.. خلافة المسلمين».
وبعد ذلك ينتقل الكتاب إلى التأطير للتاريخ والأسطورة فى مسألة الخلافة، حيث يؤكد استمرارية الخلافة منذ عهد أبى بكر الصديق حتى سقوط الخلافة العثمانية، متجاهلًا الصراع على الخلافة، أو حتى تعدد مراكز الخلافة فى الوقت ذاته بين العباسية فى بغداد، والفاطمية فى القاهرة، والأموية فى الأندلس، أو حتى الخلافة الشرفية فى القاهرة بعد سقوط بغداد على أيدى التتار، أو حتى الغموض والضباب حول موقف العثمانيين من الخلافة حتى القرن التاسع عشر؛ إذ يؤسس الكتاب هنا لتاريخ مقدس وليس تاريخ بشر غنى بالتدافع والصراع.
وفى نظرةٍ سلفية واضحة للتاريخ يُضفى الكتاب صفة «الخلافة الراشدة» على الخلافة العثمانية، على الأقل فى الفترة الأولى:
«فى العصور المتقدمة فى تاريخ الدولة العثمانية وبالتحديد فى عصر السلاطين الفاتحين عاشت الدولة خلافة راشدة، اتسعت فيها رقعة البلاد ودخل الناس فى الإسلام».
وتتضح ضحالة الكتاب تاريخيًا وعدم تخصصه الدقيق فى تاريخ الخلافة بشكلٍ عام، وتاريخ الدولة العثمانية على وجه الخصوص من خلال الفقرة التالية:
«بعد سقوط الخلافة العباسية على يد المغول، وقبل أن ينقطع حبل الخلافة من دار الإسلام، جاءت الدولة العثمانية؛ لتكمل المسيرة؛ ولتمثل لجميع الأقطار الإسلامية مركز الخلافة الجديد».
هكذا يتجاهل الكتاب عشرات، بل مئات السنين منذ انتقال الخلافة العباسية بعد سقوط بغداد إلى القاهرة، وإحياء سلاطين المماليك الخلافة فى القاهرة، لكنها كانت خلافة شرفية، حيث كانت السلطة فى يد المماليك، يضاف إلى ذلك غموض موقف سلاطين آل عثمان من الخلافة بعد الفتح العثمانى لمصر وسقوط دولة المماليك، حتى الضباب الكثيف حول مسألة انتقال الخلافة إلى بنى عثمان.